قرار أنقرة إنهاء اتفاقية خط كركوك – جيهان يكرّس تحوّلاً جيواقتصادياً في علاقة الطاقة مع بغداد، ويعيد رسم معادلات التصدير والنفوذ شمال العراق.
في خطوةٍ وُصفت بأنها تحوّل إستراتيجي في ملف الطاقة بين بغداد وأنقرة، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إنهاء العمل باتفاقية خط أنابيب النفط الموقّعة مع العراق عام 1973، والتي تنظّم تصدير النفط الخام من حقول كركوك إلى ميناء جيهان التركي. وينص القرار الذي نُشر في الجريدة الرسمية التركية، على وقف العمل بالاتفاقية وكافة البروتوكولات الملحقة بها اعتباراً من 27 تموز 2026، أي بالتزامن مع الذكرى ال52 لتوقيعها، وهو ما أثار تساؤلات داخل العراق حول دلالاته وتوقيته، في ظلّ مساعٍ قائمة لاستئناف تصدير النفط، بعد أكثر من عام على توقّف الخط نتيجة خلاف قانوني مع أنقرة.
وسارعت وزارة النفط العراقية، على إثر ذلك، إلى التأكيد أنّ القرار التركي لا يعني قطع العلاقات أو وقف التعاون في مجال الطاقة، بل يأتي استناداً إلى المادة 11 من الاتفاقية المعدّلة عام 2010، والتي تسمح لأي من الطرفين بإنهائها قبل سنة من موعد انتهائها الرسمي. وأشارت الوزارة إلى أنّ المفاوضات مع الجانب التركي كانت بدأت فعلياً منذ منتصف عام 2024، لتجديد الاتفاق وتوسيع مجالاته.
كما كشفت عن استلامها مسوّدة اتفاق جديد من وزارة الطاقة التركية، يتضمّن آفاقاً أوسع للتعاون لا تقتصر على النفط والغاز، بل تمتدّ إلى مجالات الكهرباء والصناعات البتروكيماوية، وهو ما يُفهم منه رغبة تركيا في إعادة هيكلة العلاقة النفطية مع العراق ضمن منظور اقتصادي وجيوسياسي جديد.
لكن خلف هذا الإطار القانوني، يقرأ كثير من المراقبين القرار التركي في ضوء التوتّر الذي أعقب الحكم الصادر عن غرفة التجارة الدولية في باريس في آذار 2023، والذي ألزم أنقرة دفع غرامة قدرها 1.5 مليار دولار لبغداد بسبب سماح الأولى بتصدير نفط إقليم كردستان من دون موافقة الحكومة الاتحادية، وهو ما اعتبرته الأخيرة خرقاً للاتفاقية الأصلية. ومنذ ذلك الحين، توقّف تصدير النفط عبر خط كركوك – جيهان، ما كبّد العراق خسائر تقدّر بمليارات الدولارات.
ويرى أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة، نبيل المرسومي، أنّ«تركيا تسعى في المرحلة المقبلة إلى تعزيز شراكتها مع العراق عبر مشروع جديد لخط أنابيب يبدأ من البصرة ويمتد حتى سيلوبي جنوب تركيا، مروراً بمحافظة الأنبار، وهو مشروع ينسجم مع طموحات أنقرة إلى أن تصبح مركزاً إقليمياً للطاقة، ومع أهداف بغداد المتمثّلة بتأمين بدائل مستقلّة ومستقرّة لتصدير النفط الخام بعيداً عن الإقليم ومناطقه المتنازع عليها».
ويقول المرسومي إنّ «هذا الخط الجديد، الذي تصل طاقته التصميمية إلى 2.2 مليون برميل يومياً، يُعد جزءاً من الرؤية الإستراتيجية العراقية الرامية إلى ربط البنى التحتية للطاقة بمشروع طريق التنمية، الذي يهدف إلى ربط الخليج بأوروبا عبر ممرات لوجستية تمتد من ميناء الفاو إلى تركيا».
ويؤكّد أنّ بغداد تنظر إلى هذا التوجّه على أنه أكثر أماناً واستقراراً، خصوصاً بعد العقبات الأمنية التي شهدها خط كركوك – جيهان خلال السنوات الماضية، إذ تعرّض لأكثر من 20 هجوماً بين عامي 2004 و2015، بلغت ذروة تلك الهجمات مع صعود تنظيم «داعش»، ما أدّى إلى تعطيل الصادرات النفطية بشكل متكرّر، ودفع أربيل إلى تطوير خطوط بديلة لتصدير نفط الإقليم بشكل منفصل عن بغداد.
من جانبه، يقول عضو لجنة النفط والطاقة في البرلمان العراقي، علي المشكور، إنّ «قرار أنقرة لم يكن مفاجئاً من حيث المضمون، لكنّ توقيته قد يفرض معادلات جديدة في علاقات البلدين». ويضيف، في حديث إلى «الأخبار»، إنّ «الحكومة العراقية مطالَبة الآن بالتحرّك السريع لإنجاز اتفاق جديد يراعي مصالح الطرفين ويعالج الثغرات التي شابت الاتفاق السابق، خصوصاً في ما يتعلّق بمسألة الصادرات من إقليم كردستان»، مشيراً إلى أنّ «المسوّدة التركية الجديدة قد تحمل فرصاً كبيرة للعراق إذا ما تم التفاوض في شأنها بمهنية ووضوح»، مؤكّداً أنّ «البرلمان سيكون حاضراً لمراجعة أي اتفاق جديد قبل تمريره».
وفي السياق نفسه، كشفت مصادر اقتصادية عراقية مطّلعة أنّ الاجتماعات الأخيرة بين وزارة النفط العراقية وممثّلي شركات النفط الدولية العاملة في إقليم كردستان، أحرزت تقدّماً في ما يخصّ استئناف التصدير عبر جيهان، شرط الاتفاق على آليات الدفع وتسوية المتأخّرات. وكانت وافقت حكومة بغداد، في وقت سابق من العام الحالي، على رفع بدل الإنتاج والنقل إلى 16 دولاراً للبرميل الواحد، في مسعى لطمأنة الشركات وتحفيزها على استئناف عملياتها، لكنّ الخلافات السياسية والضغوط الإقليمية لا تزال تلقي بثقلها على ملف النفط شمالي البلاد.
وفي ظلّ هذا المشهد، يبدو أنّ ما حصل لم يكن مجرّد نهاية لاتفاق قديم، بل بداية لمعادلة جديدة ستُرسم عبرها حدود التعاون النفطي بين العراق وتركيا للسنوات المقبلة. ويؤكّد مسؤولون أتراك، لوكالة «الأناضول»، أهمية الخط الجديد ضمن مشروع «طريق التنمية»، وهو مبادرة بنى تحتية تهدف إلى ربط العراق بأوروبا عبر تركيا. وتُخطّط أنقرة لاستخدام الخط لدعم الاستثمارات في مصافي التكرير والصناعات البتروكيميائية في مدينة جيهان، التي تشكّل نقطة النهاية لمسار الأنابيب القادم من العراق.
وتعليقاً على ذلك، يقول الباحث الكردي في شؤون الطاقة، حمادي رسول، في حديث إلى «الأخبار»، إنّ «من المهم أن تُدرج حقوق الإقليم في أي اتفاق جديد، سواء عبر ضمان حصة من التصدير أو إشراك أربيل في مفاوضات الصياغة، لأنّ تجاوز الإقليم مجدّداً قد يعقّد ملف استئناف الصادرات ويُعيد الأزمة إلى نقطة الصفر».
أمّا الخبير الاقتصادي أحمد الهاشمي، فيشير إلى أنّ «القرار التركي يعكس رغبة في التحرّر من الالتزامات القانونية القديمة، ويفتح الباب أمام اتفاق أكثر شمولاً ومرونة في التعامل مع تطورات السوق». ويعتبر أنّ «الخط الجديد المقترح من البصرة إلى سيلوبي يمثّل نقلة إستراتيجية للعراق، إذا ما نُفّذ فعلاً، لأنه يُخفّف من اعتماد بغداد على المسارات النفطية المتوتّرة شمالاً، ويمهّد لمرحلة أكثر استقراراً في تصدير النفط نحو أوروبا».