إعصار العدوان دمّر القطاع الزراعي في الجنوب والبقاع

في ظل شمس لبنان التي لطالما احتضنت أرضاً نابضة بالعطاء، جاء العدوان “الإسرائيلي” كإعصارٍ مدمّر اجتاح القطاع الزراعي، مخلّفا مساحات شاسعة من الخراب. هذا القطاع، الذي كان يُشكّل ركيزة أساسية للرزق والصمود، بات اليوم يعاني جروحا عميقة، بعدما التهمت صواريخ العدو أشجار الزيتون المعمّرة، وبساتين الحمضيات التي كانت تروي حياة مزارعي الجنوب.

لم تتوقف الكارثة عند حدود المحاصيل، بل امتدت إلى التربة نفسها، التي تعرضت لتلوث قاتل بسبب الفوسفور الأبيض، مما قد يجعل التربة عاجزة عن تجديد ذاتها. ومع نزوح المزارعين عن حقولهم، فقدت الأرض أيديها الحانية التي كانت تزرع الأمل مع كل موسم. لقد تجاوزت هذه الاشتباكات كونها مواجهة عسكرية لتصبح اعتداءً على هوية لبنان الزراعية، وعلى تاريخٍ حُفر بالعرق والصبر، تاركة القطاع أمام تحدٍ وجودي يهدد الأمن الغذائي ومصدر رزق الآلاف.

من جهة أخرى، تدور أسئلة كثيرة في ذهن المزارع اللبناني: هل يستطيع هذا القطاع النهوض مجددا؟ أم أن آثار الحرب ستظل شاهدة على حقبة مظلمة في تاريخ الزراعة اللبنانية؟ وما هي الأضرار والخسائر التي لحقت بالقطاع الزراعي اللبناني جراء العدوان الأخير؟ وكيف انعكست هذه الحرب على حياة المزارعين الذين نزحوا عن حقولهم وخسروا مصدر رزقهم؟ وماذا تقول المنظمات الدولية ووزارة الزراعة عن حجم الكارثة؟ وهل يمكن استعادة التربة التي تلوثت بفعل القصف؟ وما هي الحلول المطروحة لضمان استدامة الزراعة؟ وكيف يرى المزارعون مستقبل أراضيهم بعد أن فقدوا محاصيلهم هذا العام بشكل كلي؟

بناء على ما تقدم، طرحت “الديار” هذه الأسئلة على مصدر رفيع المستوى في وزارة الزراعة، كما استمعت إلى شهادات بعض المزارعين الذين يعيشون المعاناة عن قرب، لرصد تداعيات هذه الكارثة على الأرض والإنسان.

ما هي خطوات “الزراعة” لتقدير الخسائر؟ يجيب مصدر رفيع المستوى في وزارة الزراعة عبر “الديار” ان “مسح الأضرار الناتجة من العدوان “الإسرائيلي” على لبنان ، يعتبر خطوة مهمة في تحديد حجم الدمار الذي طال القطاع الزراعي، خاصة في ما يتعلق بمزارعي الأفوكادو والزيتون. إن هذا النوع من الفحص لا يقتصر فقط على قياس الأضرار المادية، بل يمتد أيضا الى تحديد تأثيرات العدوان في قدرة المزارعين على استئناف عملهم وسبل عيشهم”.

ويكشف المصدر ان “وزارة الزراعة في لبنان، بالتعاون مع المنظمات الدولية والمحلية، اعتمدت على آلية علمية دقيقة لتقييم الأضرار، والتي تشمل المسح الميداني من خلال الفرق المتخصصة ، التي ستزور المناطق المتضررة بعد تثبيت وقف إطلاق النار، كما سيتم الاستعانة بالتقنيات الحديثة، مثل الاستطلاع الجوي لتوثيق الأضرار بشكل أكبر وواقعي. كما تم تحديد المعايير التي تقيم حجم الخسائر، بناءً على نوع المحاصيل والأراضي المتضررة، ومدى تأثرها بالإصابات المباشرة من القصف والاعتداءات “الإسرائيلية”، وعلى وجه الخصوص الحرائق التي حدثت بفعل الاستهداف بالفوسفور الأبيض المحرم دوليا “.

وينوّه المصدر في ختام حديثه الى ان “هذه العملية لم تقتصر على قياس الخسائر الزراعية فقط، بل تسعى إلى وضع خطة تعافي تضمن تقديم الدعم المناسب للمزارعين المتضررين، بما في ذلك تعويضات مادية ، أو تقديم مساعدات فنية للتعامل مع تحديات الإنتاج، وتطوير آليات جديدة تضمن استدامة القطاع الزراعي اللبناني في المستقبل”.

الزيتون… الإنتاج والتحديات

يقول المزارع أبو مهدي لـ “الديار”: “تُعد زراعة الزيتون من أهم القطاعات الزراعية في لبنان، حيث تغطي حوالي 6.5% من مساحة البلاد و23% من الأراضي الزراعية المستغلة. يعمل فيها نحو 170,000 مزارع، مع وجود حوالي 14 مليون شجرة زيتون تقريبا، منها 2 مليون شجرة في عكار، ما يمثل 12.3% من المجموع الكلي”.

وفي هذا الإطار، ذكرت “الغارديان” في تشرين الثاني ان “إنتاج الزيتون يتراوح بين 75 و90 ألف طن في سنوات “الحمل القليل”، ويصل إلى 170-200 ألف طن في سنوات “الحمل الكثير”. لكن موسم 2024 شهد انخفاضا حادا، إذ تراجع إنتاج الدونم من 6 تنكات إلى أقل من تنكة واحدة، بسبب التغير المناخي والاعتداءات “الإسرائيلية” التي دمرت 60 ألف شجرة، بعضها عمره يتجاوز 300 عام، ملوثة التربة بالفوسفور الأبيض. وبذلك، بلغت خسائر القطاع حوالي 58 مليون دولار، مما يشكل تحديًا كبيرًا لاستدامة زراعة الزيتون، رغم استمرارها كمصدر رزق أساسي لآلاف العائلات”.

الحمضيات والأفوكادو في الجنوب

من المهم ان نلفت النظر أيضا الى بساتين الحمضيات والأفوكادو في جنوب لبنان، لا سيما في المنصوري ومرجعيون، حيث تعرضت لتدمير واسع النطاق بسبب القصف “الإسرائيلي”، مما أثر بشكل مباشر في دخل آلاف العائلات، التي تعتمد على هذه الزراعات. وتُنتج منطقة الجنوب 70% من إجمالي الحمضيات في لبنان، بتركيز على الشريط الساحلي الممتد من الزهراني حتى الحدود مع الأراضي المحتلة. تبلغ المساحة المزروعة بالحمضيات حوالي 15 ألف هكتار، مع إنتاج سنوي يُقدر بـ 225 ألف طن، يُصدَّر منها 60 ألف طن، 60% منها إلى السعودية.

ويشهد قطاع الافوكادو نموا ملحوظًا، حيث يتركز 80% من مزارعيه (3,700 مزارع) في الجنوب. ويبلغ الإنتاج الحالي في عكار 500 طن سنويا، مع توقعات بالوصول إلى 4,000 طن خلال السنوات الأربع المقبلة (النسب تقريبية).

زراعة التبغ: شريان حيوي تحت التهديد

ويؤكد أحد مزارعي التبغ من بنت جبيل لـ “الديار” ان “زراعة التبغ تعد ركيزة اقتصادية واجتماعية للجنوب اللبناني، حيث تُعتبر مصدر رزق أساسيا لآلاف العائلات في مناطق مثل النبطية وبنت جبيل ومرجعيون. يواجه هذا القطاع تهديدات عديدة، أبرزها الأضرار الناجمة عن القصف والنزوح، ما أثّر سلباً على أعمال الزراعة والحصاد، وترك انعكاسات كبيرة على الأسر، التي تعتمد عليه لتلبية احتياجاتها الأساسية. وتتجلى أهمية هذا القطاع على المستويات الاتية:

1- اقتصادياً: يساهم هذا القطاع في تحريك عجلة الاقتصاد الوطني، عبر إنتاج أوراق التبغ وشرائها من قبل الدولة ممثلة بـ “إدارة حصر التبغ والتنباك” (الريجي)، مما يضمن استمرارية دخل المزارعين.

2- اجتماعياً: يؤمن فرص عمل موسمية ودائمة للرجال والنساء على حد سواء، مما يُعزز الاستقرار المعيشي للأسر، ويدعم دور النساء في الاقتصاد.

3- رمز للتحمّل: تُجسد زراعة التبغ ارتباطاً بالهوية الثقافية والتاريخية للجنوب اللبناني، وتُعدّ شعاراً للصمود والنضال، خاصة في مواجهة الاحتلال “الإسرائيلي”.

4- محصول مقاوم: يتميز التبغ بقدرته على التأقلم مع التربة غير الخصبة والظروف المناخية القاسية، مما يجعله خياراً أساسياً في المناطق ذات الإمكانات الزراعية المحدودة.

دور استراتيجي

من هنا تسلط “الديار” الضوء على دور شتل التبغ المهم في السياسات الزراعية للدولة، حيث يرتبط بدعم القطاع الزراعي وإدارة الموارد، مما يجعله جزءاً من استراتيجيات الحفاظ على الأمن الاقتصادي والاجتماعي للمناطق الريفية. ورغم التحديات، تبقى زراعة التبغ دعامة أساسية لاستقرار الأسر اللبنانية، ودلالة على التمسك بالأرض والهوية.

في حين تشكل زراعة القمح في الجنوب، مصدرا مهما للعديد من الأسر في المناطق الريفية مثل النبطية ومرجعيون، حيث يستخدم الإنتاج المحلي لتوفير الطحين. وعلى الرغم من أن المساحة المزروعة أقل مقارنةً بالمناطق الأخرى. إلا أن هذه الزراعة تكتسب أهمية استراتيجية، خاصة في أوقات الأزمات التي يتعرض لها لبنان في ما يتعلق بإمدادات القمح.

تلوث التربة بسبب الفوسفور

طبقاً لتقارير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، تعرضت 130 بلدية في لبنان لأضرار مباشرة بفعل القصف، مما أدى الى خسائر واسعة في الأراضي الزراعية والبنية التحتية الريفية. وتشمل المناطق الأكثر تضررا بعلبك، الهرمل، النبطية، ومرجعيون، التي تُعتبر مناطق زراعية رئيسية تضم سهولًا خصبة ومحاصيل أساسية.

علاوة على ذلك، فان استخدام الفوسفور الأبيض يزيد من تلوث التربة، مما يضاعف من صعوبة إعادة تأهيل الأراضي المتضررة ويهدد الاستدامة الزراعية في المستقبل القريب.

خطط التعافي

في سياق متصل بكل ما تقدم، أكد وزير الزراعة عباس الحاج حسن، أن الوزارة تعمل بالتعاون مع المنظمات الدولية، لوضع خطة شاملة للتعافي من الخراب الذي لحق بالقطاع الزراعي. علما بان الخسائر تجاوزت 124 مليون دولار.

 

مصدرالديار - ندى عبد الرزاق
المادة السابقةالمحروقات تُهرّب عبر الحدود بسبب فارق الأسعار
المقالة القادمةقانون حماية الودائع: يحمي المصارف أولاً ويُسقط الدعاوى القضائية