إلى جانب الإنقسامات الطائفية والحزبية، في لبنان اليوم إنقسام إقتصادي واضح. فعلى رقعة جغرافية صغيرة نسبيّاً وفي زمن واحد هناك مجموعات مختلفة تعيش بطريقة متوازية ولكلّ منها دورتها الإقتصادية الخاصّة بها ونمط حياتها وهمومها ولا تتقاطع مع غيرها إلا في أمور محدّدة أو على صعيد الاقتصاد الكُلّي (ماكرو).
1 – إقتصاد السياسيين وأتباعهم
من المؤكد أن طبقة السياسيين – جميعهم دون استثناء – يعيشون على كوكب آخر. والأهم، أن أوضاعهم الاقتصادية دائماً مزدهرة وتتقدّم إلى الأمام. فالأزمة المالية هم صانعوها، مباشرة أو بالواسطة مع شركائهم في المصارف ومصرف لبنان. ومن الواضح أن السياسيين أخرجوا أموالهم من المصارف منذ 2016 وخصوصاً في النصف الثاني من 2019 وبكثافة عالية بعد 17 تشرين. السياسيون يسافرون، يتابعون حياة البذخ ويمارسون نشاطاتهم المفضلة وأعمالهم و»كومبيناتهم» كالعادة.
2 – إقتصاد المصارف والمصرفيين
ليس هناك أدنى شك في أن المصارف هي المسؤول الأول عن التفريط بأموال المودعين والتمادي في تمويل دين الدولة والمشاركة بدافع الجشع اولاً في بهلوانيّات مصرف لبنان المالية والنقديّة. لكن لا بد من التذكير أن الرأسمال المجمّع للمصارف اللبنانية زاد 100 ضعف ما بين نهاية «الحرب الأهليّة» وإنكشاف الأزمة المالية وهي وزّعت في هذه الفترة مبالغ طائلة (تقدّر بما لا يقل عن 15 مليار دولار) أرباحاً وعلاوات تحوّلت إلى حسابات مساهميها ومديريها في الخارج وكذلك تحوّلت أرباحها إلى استثمارات ومصارف جديدة حول العالم. من حق المصارف وأصحابها أن يربحو، ومن واجبهم أن يتحملوا الخسائر التي نتجت عن المغامرة في تمويل الدولة والمقامرة على طاولة البونزي.
3 – إقتصاد الجمعيّات
هناك آلاف الجمعيات وعشرات آلاف العاملين فيها ومعها مع شبه إستحالة لمراقبتها ماليّاً إن من حيث مصادر التمويل أو وجهات الصرف إلّا ما تعلنه هي على صفحاتها. في فترة ما قبل الأزمة كانت هذه الجمعيات هي التي تقوم بالتوظيف وهي التي تطرح المناقصات وتحرّك الإقتصاد إلى حد ما. هذه الجمعيات مرتبطة بدول وجمعيّات أخرى عابرة للحدود ذات أجندات وتمويل معلن ومستتر. وتتقاطع هذه الجمعيات مع السياسيين وجمعيات زوجاتهم، ومع الوزارات ومع مخابرات دول أجنبية غالباً ما تجد في الأعمال الإجتماعية والتنموية مدخلاً سهلاً إلى جميع زوايا المجتمع.
4 – إقتصاد الأحزاب الممولة من دول
هناك أحزاب لبنانية تتلقى التمويل من دول خارجية باعترافها العلني أو تلك التي يعرف عن تمويلها عندما تتذمّر جهات عربية وأجنبيّة من «رداءة المردود» على مليارات الدولارات من المساعدات التي تمّ توزيعها في الشنط. لن نتطرّق للجوانب الأخلاقية والمبدئية والقانونية لتلقي تمويل من دول خارجية، لكن في الشكل، هذا النوع من التمويل هو رافد كبير لإقتصاد الكاش أو الإقتصاد الرمادي الموازي.
5 – إقتصاد التهريب والتبييض والتزوير
حدّث ولا حرج عن إقتصاد التبييض والتهريب والتزوير على أنواعه، فهذه الأنشطة موجودة منذ عقود طويلة ومحميّة بالتأكيد، حتى كانت النُكتة التي تقول إن اللبنانيين هم «تلت يعمل، وتلت لا يعمل وتلت لا نعرف ماذا يعمل». وعلى صعيد آخر، أصبح من شبه المؤكّد أن المصارف اللبنانية قد تغاضت خلال عقود عن تطبيق الأنظمة المصرفية والتدقيق في نشاطات وهويّات زبائنها (KYC) وسمحت لعشرات المليارات من الدولارات المجهولة المصدر بالمرور أو الإستقرار في حساباتها وهي مُحرجة الآن من المُطالبات بالغاء السريّة المصرفية والتدقيق الجنائي في حساباتها.
6 – إقتصاد المغتربين وعائلاتهم
هجرة اللبنانيين لأسباب إقتصادية قديمة جداً، وفي الغالب يعمد المهاجرون إلى إرسال المساعدات المالية إلى عائلاتهم وأقاربهم. فهذه المساعدات التي تأتي من الخارج وعلى امتداد الطيف اللبناني مكّنت ول اتزال عائلات كثيرة من المحافظة على مستوى معيشي معيّن لا يتوافر لدى جيرانها في نفس الحيّ والبيئة من الذين لا تصلهم مساعدات من المغتربين. وبسبب السرقة الكبرى التي حصلت، تحويلات المغتربين إلى عائلاتهم شحّت واقتصرت على الضروريات وهي مرشحة للإنقطاع مع مرور الوقت ومع إستمرار إنعدام الثقة بالمصارف اللبنانية.
7 – إقتصاد النازحين
النازحون وأغلبهن من السوريين لهم دورتهم الإقتصادية الخاصة ومصادر دخلهم والمساعدات الأممية التي تصلهم والتي يقال أنها عنصر مُقرر في بقائهم أو عودتهم إلى بلادهم وحتى لها تأثيرها الكبير على نسبة الولادات. من المؤكد أن إقتصاد النزوح تقاطع مع إقتصاد المجتمعات المضيفة وكذلك مع السياسيين والوزارات والجمعيات. كما أن أعداد كبيرة من الأجانب الميسورين اندمجوا إقتصادياً وإجتماعيّاً في أحياء اللبنانيين.
8 – إقتصاد المواطنين العاديين
ما يميز إقتصاد المواطن اللبناني العادي الذي ليس لديه واسطة ولا مداخيل جانبية من الأحزاب أو مساعدات من المغتربين أو من الجمعيات، هو أنه «إقتصاد المستحيل». فالمواطن العادي الذي تحتجز المصارف أمواله ولا يجد باباً للعمل عليه تطوير قدراته في مجال السحر لكي يستطيع تأمين حياة كريمة على وقع تعاميم مصرف لبنان من 150، إلى 300 وأقصاها 400 دولار في ظل توقف السحب الخاسر أصلاً وعلى أسعار غير قانونيّة بالليرة.
إنها إقتصادات لبنان المُتعدّدة وغير المتّحدة كطوائفه وغير الفاعلة كحكوماته ولم يبقَ للمواطن العادي «غير المدعوم» سوى تطوير مهاراته في السحر وفكّ المكتوب.