إملاءات صندوق النقد: الحل بالخصخصة!

هل يذهب لبنان إلى خيار الخصخصة في المرحلة المقبلة؟

قد يكون هذا الطرح جدياً ومتماهياً مع الخيارات التي تتجه الحكومة إليها. كما يمكن الاستدلال إلى الأمر بالنظر إلى خلفية الوزراء المختارين للعدد الأكبر من الحقائب الرئيسية. علماً أن مواقف عدد منهم مؤيدة للخصخصة بكل أشكالها، ولا سيما الصيغة المتعلقة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص. كما توجد مؤشرات إضافية من أبرزها طلبات صندوق النقد الدولي حول «الإصلاحات».

الخصخصة، هي محطة طبيعية في مسار الاتفاق مع صندوق النقد. قد لا يتم طرحها كشرط مباشر للصندوق، علماً بأنه يضعها كأحد الشروط في بعض الحالات، إلا أن «حتميتها» تظهر عبر سياسات التقشف التي يفرضها صندوق النقد كشروط مسبقة لأي تمويل، وهي خطوات تؤثر على قرارات الحكومات المستقبلية، وستترجم على شكل تخلٍّ تدريجي للدولة عن ملكية بعض المؤسسات، وذلك انطلاقاً من أن سياسات التقشّف تفرض على هذه المؤسّسات أن تكون في وضعية غير قابلة للاستمرار، فلا يبقى لها جدوى إذا بقيت بيد الدولة. هذا الأمر لحظته دراسة أعدّتها الباحثتان كيارا ماريوتي وماريا خوسيه روميرو، في ورقة بعنوان «كشف غموض خطاب مؤسسات بريتون وودز بشأن الخدمات العامة»، وتفيد بأن مؤسّسات بريتون وودز المتمثّلتان بصندوق النقد والبنك الدولي، تعملان على تقويض تمويل الخدمات العامة والقوى العاملة في القطاع العام، وتوصيان بخصخصة الخدمات واستخدام الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتقديم هذه الخدمات، رغم الأدلة المتزايدة ضدّ هذه الممارسات.

تجارب العالم، وتجارب لبنان، تجعل أصحاب الدخل الأدنى ضحية أولى لعملية الخصخصة، خصوصاً أن المقصود قطاع الخدمات من كهرباء ومياه واتصالات

في لبنان، قد تختلف الأبواب التي يمكن أن تدخل منها أفكار الخصخصة المبطّنة. فهي قد تكون إحدى أدوات تسوية الأوضاع المصرفية؛ إذ تتحمّل الدولة جزءاً من المسؤولية عن طريق استخدام أرباح مؤسّسات القطاع العام المختلفة لتغطية الخسائر المصرفية. هذا يعني أن أرباح هذه المؤسسات لن تعود لتُستثمر مجدداً في هذه المؤسّسات، وهذا يقود بشكل أو بآخر إلى خيار التخلّي عن الملكية العامّة لهذه المؤسسات. لكن هذا مسار يختلف عن مسار التقشّف في الإنفاق الذي يؤدّي إلى الخصخصة أصلاً.

توجد أبحاث كثيرة تتحدث عن مساوئ الخصخصة، وهناك أوراق بحثية تخلص إلى استنتاج بأن للخصخصة مساوئ اجتماعية، وهي تنعكس بشكل خاص على الطبقات الفقيرة. على سبيل المثال تتحدث الباحثة كيارا ماريوتي في ورقة تحت عنوان «تمويل السياسات الإنمائية في استجابة البنك الدولي لجائحة كوفيد-19»، عن نتائج الخصخصة، ومنها رفع التعرفات على الخدمات العامة. وبحسب الباحثة تلحق هذه الإصلاحات ضرراً غير متناسب بالسكان ذوي الدخل المنخفض الذين يعتمدون على الخدمات العامة بأسعار معقولة.

لا يعني هذا الأمر أن الدولة تدير قطاعات الخدمات العامة بشكل مثالي، لكن لا يعني ذلك أن الحل هو إلغاء دور الدولة في هذه الخدمات. صحيح أن الوضع الحالي لهذه الخدمات أصبح مزرياً إلى درجة أن المواطن أصبح يقول «اجلبوا لنا التيار الكهربائي، حتى لو بالخصخصة»، فهو ينفق مبالغ كبيرة على هذه الخدمات حتى في الوقت الحالي. لكن مجرّد احتمال أن تعود كهرباء الدولة الرخيصة نسبة إلى كهرباء مولدات الأحياء، حتى بعد تعديل تعرفتها، يجب أن يمثّل بريق أمل لدى المواطن بأن يحصل على الخدمة بسعر أقل. وهذا الأمر ينطبق على باقي خدمات الدولة.

عند الحديث عن الخصخصة في لبنان، فالمقصود هو الخدمات العامة، مثل الكهرباء والاتصالات والمياه وربما الطرق أيضاً، إضافة إلى مرافق تعود ملكيتها بشكل أو بآخر إلى الدولة، مثل شركة طيران الميدل-ايست أو كازينو لبنان، حتى تسييل محافظ عقارية كبيرة كالتي يملكها مصرف لبنان عبر مؤسسات تتبع له. وهذه القطاعات تندرج تحت ما يُسمى بـ«اقتصاد الشبكات». واسمه اقتصاد الشبكات، لأن قطاعاته متّصلة بين المصدر الأساسي للخدمات، وبين المستهلك، عبر شبكة. وهذا الأمر ينطبق على قطاعات الكهرباء، والماء، والغاز، والنقل، والهاتف. والتعامل مع «اقتصاد الشبكات» يكون مختلفاً جذرياً عن التعامل مع القطاعات الأخرى القائمة ضمن النظام الرأسمالي. فكما يوضح الباحث هانز فيرنر غوتنغر في دراسة بعنوان «اقتصادات قطاعات الشبكات»، فإن النماذج الاقتصادية الرأسمالية تسعى إلى تحليل آليات عمل الأسواق في القطاعات التقليدية كالصناعة والزراعة، عبر افتراض وجود منافسة كاملة». تنتمي هذه النظرية إلى الفكر الرأسمالي منذ منتصف القرن الثامن عشر، وتصوّر سيناريو «مثالياً» تُحدد فيه الأسعار بناءً على توازن العرض والطلب من دون تدخّل عوامل خارجية، ومع افتراض تجانس المنتجات واقتصاد أرباح الشركات على الحدّ الأدنى الضروري للبقاء في السوق. فأي شركة تحاول زيادة أرباحها عبر رفع الأسعار ستفقد زبائنها لمصلحة منافسين يبيعون بأسعار أقل، في ظل غياب عوائق لدخول السوق أو الخروج منه.

عادةً، يعتبر النظام الرأسمالي أن المنافسة في القطاعات التقليدية تُسهم في خفض الأسعار، وتعزز رفاهية المستهلك لجهة الكلفة والجودة. لكن وفقاً لغوتنغر، فإن قطاعات الشبكات تختلف تماماً؛ إذ تتطلب استثمارات أولية ضخمة، ما يجعل الدخول إلى السوق أو الخروج منه مُكلفاً جداً، خلافاً لفرضيات «المنافسة الكاملة». كما إن آلية تسعير الخدمات في هذه القطاعات لا تخضع لقوانين العرض والطلب التقليدية، نظراً إلى اختلاف طبيعة المنتجات. فمثلاً، تتميز الخدمات الشبكية مثل الكهرباء بعمر افتراضي قصير جداً، حيث يُستهلك كل وحدة منتجة فور إنتاجها، ما يتطلب عمليات إمداد مستمرة. علماً أن تجربة لبنان في إدارة القطاع الخاص لشبكة الهاتف الخلوي، كشفت عن احتكار بين الشركات المشغلة بما أسقط كل أنواع التنافس خصوصاً لجهة كلفة الخدمات.

هذه الخصائص الفريدة تجعل التعامل مع قطاعات الشبكات بحاجة إلى إطار اقتصادي خاص، مختلف عن النماذج التقليدية. ويركز القلق الرئيسي هنا على مفهوم «الاحتكار الطبيعي»، كما يشير أندرياس كولمان في أطروحته «مقالات عن صناعات الشبكات: الخصخصة والتنظيم وقياس الإنتاجية». فتكاليف الدخول إلى هذه القطاعات باهظة، مثل بناء محطات توليد الكهرباء أو شبكات توزيع المياه، وتُصنف هذه التكاليف كـ«تكاليف غارقة» غير قابلة للاسترداد. هذا الواقع يرفع مخاطر دخول شركات جديدة، لمصلحة الشركات الكبيرة القادرة على تحمل التكاليف، ما يعزز سيطرة الاحتكارات.

لا تقتصر التحديات على الأكلاف فحسب، بل تشمل طبيعة الخدمات التي تتطلب بنى تحتية ممتدة تصل مباشرة إلى المستهلك، الذي لا يملك خياراً آخر غير التعامل مع الشبكة القائمة. حتى لو سُمح للشركات المنافسة باستخدام هذه الشبكات، تظل الشركة المالكة لها تتمتع بميزة اقتصادية عبر إيجارها لتلك البنى. ويضيف كولمان أن المنافسة في هذه القطاعات ليست صعبة فحسب، بل غير مرغوب فيها أيضاً؛ لأنها قد تؤدي إلى تهميش المناطق الريفية لمصلحة المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية، ما يهدد شمولية الخدمات العامة. لذا، يُعد الاحتكار الحكومي لهذه القطاعات ضرورة لضمان عدالة التوزيع.

وتظهر التجارب أن تطبيق قواعد القطاعات التقليدية في اقتصاد الشبكات يُعد مغالطة. فغياب المنافسة الكاملة يسمح للشركات المحتكرة بتحديد الأسعار بشكل تعسفي من دون ضمان تحسين الخدمات. وبالتالي، لا تُقدم الخصخصة حلّاً ناجعاً، بل تعمّق هيمنة الاحتكارات، ما يدعو إلى تبنّي نماذج تنظيمية خاصة تُراعي طبيعة هذه القطاعات الاستثنائية.

بشكل عام، لا يمكن التعامل مع الخدمات العامة، لا سيما الخدمات التي تندرج تحت عنوان «اقتصاد الشبكات»، كأي من القطاعات الأخرى التي يمكن للقطاع الخاص أن يكون مفيداً فيها. ومع العلم أن وضع هذه الخدمات سيئ حالياً، إلا أن الحل لا يكون عبر التخلّص منها، أو التخلّي عنها من قبل الدولة. بل من البديهي أن تقوم الحكومة بمحاولة إصلاحها، وإبقائها تحت يدها من أجل تأمين وصولها إلى جميع المواطنين بأسعار جيدة. صحيح أن هذا الأمر يخرج عن الجرف النيوليبرالي الذي يحاول صندوق النقد الدولي أن يفرضه على دول العالم الثالث، إلا أن واجب الحكومة في هذه الحالة أن تكون واعية لمخاطرها، إذا كان الصالح العام هو الهدف، وليس تطبيق الإملاءات فقط.

مصدرجريدة الأخبار - ماهر سلامة
المادة السابقةتمارا الزين: تقدير البنك الدولي للأضرار «واقعي» والخسائر «قابلة للنقاش»
المقالة القادمة«صندوق النقد» يدعو لبنان لوضع خطة إصلاحية مالية