إنكار مشكلة الديون لن يحلها

يبدأ حل مشكلة تراكم الديون على مصر من الاعتراف بوجود المشكلة والابتعاد عن تجاهل الأمر أو الركون إلى حجة أنها ما زالت في الحدود الآمنة التي لا يتوقف المسؤولون عن ترديدها كلما اضطروا إلى التطرق إلى الموضوع. والعام الماضي، حين نشرت مجلت فورين بوليسي مقالاً لوزيرٍ سابق، انتقد فيه الأوضاع الاقتصادية الحالية، قبل الطفرات الأخيرة في الدين العام، وتحديداً الجزء الخارجي منه، سارعت وزيرة التخطيط المصرية وقتها ونشرت رداً مفصلاً على كل ما جاء بمقال الوزير، إلا أنها تجاهلت تماماً الجزء الخاص بتضخم الدين الخارجي، واكتفت بالإشارة إلى نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، مشيرةً إلى أنها والدين عموماً ما زالا في الحدود الآمنة.

ومع احتدام أزمة فيروس كورونا المستجد، اضطرت أغلب الحكومات في الدول الكبرى إلى إنفاق المليارات مما لم يكن مخططاً إنفاقه، في صورة إعانات للمواطنين الذين تأثرت دخولهم من جراء الأزمة، أو لتوفير البيئة الآمنة للمواطنين عند اضطرارهم للخروج وأداء مصالحهم، كما لتحديث وتطوير شبكات الرعاية الصحية بما يناسب ما فرضه الفيروس القاتل.

ولمقابلة هذه الزيادات الضخمة في الإنفاق، اضطرت حكومات أغلب تلك الدول إلى زيادة اقتراضها لمقابلة الزيادة الطارئة في الإنفاق، الأمر الذي وفر حجة جديدة للمسؤولين المصريين، تضاف إلى قائمة الحجج الواهية التي تستخدم عند أي تحذير من تراكم الديون على الحكومة المصرية، والتي أصبحت خدمتها السنوية، أي ما يتعين سداده من أقساط وفوائد كل عام، في الفترة الأخيرة تستنزف كل إيرادات الدولة تقريباً، لتضطر الحكومة إلى الاقتراض من جديد للوفاء بالاستحقاقات الأخرى من مصروفات على التعليم والصحة والصرف الصحي والبحث العلمي، وجميعها متردية في مصر مؤخراً بسبب نقص الموارد.

والحقيقة أن اقتراض حكومات العالم قد يكون مبرراً بعد أن ساعدت تلك الحكومات مواطنيها بتقديم معونات نقدية مباشرة، وتعويضات بطالة سخية، ووفرت لأغلبهم اختبار الكشف عن الفيروس بتكلفة محدودة جداً أو بدون تكلفة، وأوقفت تحصيل الضرائب على الدخول المنخفضة لعدة شهور، كما ألغت بعضها، وتحملت عن بعض المواطنين ممن فقدوا مصادر الرزق قيمة إيجار مساكنهم، ومنعت طرد المتعثرين في الدفع، وقدمت لهم ولأبنائهم وجبات مجانية ساخنة لفترات طويلة.

أما الحكومة المصرية، فلم تقدم إلا مبالغ محدودة، لم تتجاوز مائة دولار، لنحو 1.6 مليون مواطن يمثلون ما يقرب من ثمن العمالة غير المنتظمة الموجودة في مصر، والتي كانت المتضرر الأكبر خلال فترات حظر التجول الجزئي الذي فرضته الحكومة المصرية خلال أزمة انتشار الفيروس.

وبعد الإعلان عن صرف مبلغ 2.4 مليار جنيه لمن تقدموا للحصول عليها من العمالة غير المنتظمة، ورغم التشدق الحكومي المتكرر بالخطوة، أشارت تقارير صحافية مستقلة في مصر إلى أن كل هذه الأموال من حساب رعاية وتشغيل العمالة غير المُنتظمة الذي أطلقته الدولة في أعقاب ثورة 25 يناير المجيدة، فيما يعد المنحة الأولى من نوعها في تاريخ العمالة المصرية غير المُنتظمة منذ إنشاء الصندوق قبل تسعة أعوام.

تركت الحكومة المصرية ملايين الفقراء يواجهون مصيرهم المحتوم، حيث جاء في تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو جهة حكومية لا تخضع لسيطرة “الجماعة الإرهابية” التي تحاول دائماً التقليل من إنجازات الدولة المصرية، أن نسبة كبيرة من الفقراء اضطرت للاقتراض من الأقارب والجيران أو خفضت استهلاكها من الأكل والشرب، لمواجهة تداعيات أزماتهم الاقتصادية.

وبينما تركز اقتراض الحكومات التي ساعدت شعوبها في عملتها المحلية، توجهت الحكومة المصرية للاقتراض من جديد من صندوق النقد الدولي وبعض بنوك دول الخليج، بالإضافة إلى إصدارها سندات دولية لآجال تصل إلى ثلاثين عاماً، وكل ذلك بالعملة الأجنبية، حتى تجاوز ما اتفقت مصر على اقتراضه خلال شهرين فقط بعد اندلاع أزمة فيروس مبلغ 15 مليار دولار، يتوقع لها أن تصل بالدين الخارجي المصري إلى أكثر من 125 مليار دولار، بارتفاع بنسبة 14% تقريباً عن رصيدها بداية العام، وقبل أربعة أشهر من انتهائه.

وفي الوقت الذي قال فيه وزير المالية محمد معيط إنه “ليس هناك خيار ولا ننظر في الوقت الحالي إلى ارتفاع الديون بقدر تلبية الحاجات الأساسية والحفاظ على الصحة العامة للشعب المصري”، وهو نفس المضمون الذي كرره الرئيس المصري يوم السبت عند افتتاحه بعض “المشروعات القومية الكبرى”، أبدعت الحكومة في زيادة الأعباء على المواطن المصري، فرفعت أسعار الكهرباء بنسبة تصل إلى 20%، وفرضت رسوماً جديدة على استخراج وتجديد رخص السيارات، وأجبرت المواطنين على دفع غرامات ضخمة على أي مخالفات بناء تمت خلال العقود الماضية، وخفضت وزن رغيف العيش المدعم، وأجبرت الطلاب الراسبين على دفع غرامات، وكأنها لا ترى أي تأثير للأزمة على أحوال المواطنين الاقتصادية، رغم أن دراسة حديثة لمعهد التخطيط المصري توقعت أن يزداد عدد المصريين تحت خط الفقر بسبب فيروس كورونا وتبعاته بما يتراوح بين 5.5 ملايين و12 مليون شخص، يضافون إلى أكثر من 32 مليون يرقدون بالفعل، ومنذ سنوات، تحت نفس الخط المشؤوم.

الحدود الآمنة لم تعد آمنة، وحين يتحدث الوزير والرئيس عن عدم وجود بدائل، ويشيران إلى اضطرار الحكومة للاقتراض من أجل تحقيق معدلات النمو المنشودة، يجب أن يعلم الجميع أن هذا دليل على أننا تجاوزنا أية حدود آمنة، ودخلنا منطقة اللاعودة، خاصة أن معدلات النمو التي يتحدثون عنها تكون في حدود 5%-6%، بينما ازدادت مديونية الحكومة على مدار الأعوام السبعة الماضية، بمعدلات سنوية تجاوزت 10%، ووصلت في بعض الأحيان إلى 18%، الأمر الذي يعني بصورة واضحة استمرار ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، على عكس ما يحاولون إقناعنا به.

قبل خمس سنوات، قالوا لنا إن الدين الخارجي في الحدود الآمنة، وكان وقتها في حدود 45 مليار دولار. فهل يمكن أن يبقى داخل تلك الحدود رغم تجاوزه الآن 120 مليار دولار؟

 

 

مصدرالعربي الجديد - شريف عثمان
المادة السابقةالسوريون خائفون من ضياع مدخراتهم في بنوك لبنان
المقالة القادمةعجز الموازنة الأميركية يتجه لأعلى مستوى منذ الحرب العالمية الثانية