كان للحرب الاهلية التي استمرت 15 عاماً (1975-1990) آثار مدمرة على لبنان، مع تدمير البنى التحتية الى جانب التوسع المدني العمراني لبيروت والمدن المجاورة الذي عززه النزوح الداخلي وتدفق اللاجئين. وقد أدت البنى التحتية المتهالكة، الى جانب الطلب المتزايد من قبل عدد كبير من المواطنين، الى الاستخدام غير المستدام للمياه الجوفية، على الرغم من تشييد سد القرعون ومشروع الليطاني الكهرومائي.
وتناول تقرير البنك الدولي الذي صدر أوائل الشهر الماضي عن لبنان تحت عنوان: «مخطط بونزي يتسبب بمعاناة اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة للشعب اللبناني، أوضاع الخدمات العامة مثل المياه والكهرباء والنقل والصحة والتربية. وقال عن قطاع المياه ما يلي:
شهدت الفترة منذ بداية 2001 تعزيزاً في توفير خدمات المياه من خلال تشكيل مؤسسات المياه الأربع: في الجنوب والشمال وبيروت وجبل لبنان والبقاع. وتعيش هذه المؤسسات ظروفاً محفوفة بالمخاطر منذ انشائها. كما تعاني من عدم كفاية الأداء التقني والمالي والتجاري، مما يجعل من الصعب عليها تقديم الخدمات الكافية. فليس لدى هذه المؤسسات تاريخ في تقديم بيانات مالية مدققة. وفقط 8% من مياه الصرف الصحي تلقى معالجة ثانوية، بينما يتم تصريف الباقي في مياه المجاري أو بدون معالجة أولية…
تاريخياً، كان حوالى 79% من الشعب اللبناني متصلين بنظام امدادات المياه العامة، على الرغم من أن الخدمة كانت في الغالب متقطعة تصل الى ثلاث ساعات يومياً في العديد من المناطق خلال فصل الصيف. مما أدى الى زيادة في الاعتماد على خزانات المياه الخاصة الأكثر كلفة والمياه المعبأة في القوارير.
آثار الأزمة على القطاع
كانت للأزمة المالية والاقتصادية تداعيات كبيرة على كلفة انشاء المؤسسات الأربع للمياه، علماً ان الدولار هو الأساس في كلفة انشائها. وهي لا تحصل على الدعم المالي من الحكومة وتعتمد في الأساس على الدخل من جباية الفواتير بالليرة. ونتيجة لذلك، أدى انهيار الليرة اللبنانية الى تفاقم الفجوة بين إيرادات ونفقات هذه المؤسسات. فبينما استطاعت مواصلة عملياتها من خلال الحصول على الوقود المدعوم وتأخير الصيانة وتلقي دعم المانحين الدوليين، فان رفع الدعم عن مشتقات الوقود قد زاد من اعبائها المالية وعرّض امدادات المياه الى الخطر.
ووفقا لليونيسف، «ما لم يتم اتخاذ إجراءات فورية، فان شبكات المياه العامة سوف تنهار وسواء بشكل مباشر أم غير مباشر، ستقضي على إمكانية حصول اكثر من أربعة ملايين شخص على المياه الصالحة للاستهلاك».
يضاف الى ذلك أن انقطاع التيار الكهربائي قد أثر على قدرة هذه المؤسسات على معالجة المياه وضخها وتوزيعها، كما شكل اجمالي تكاليف الطاقة ( الكهرباء والوقود) ما بين ثلث الى نصف نفقاتها التشغيلية. واستطاعت هذه المؤسسات الاستفادة من الدعم غير الفعال والمكلف على واردات الوقود ودعم الوقود الذي قدمته الحكومة لفترة معينة . ومع الغاء الدعمين فان هذه المؤسسات المعتمدة حصرياً على المولدات قد تنهار في غضون أشهر.
بالإضافة الى ذلك، أثر نقص الوقود والديزل على توزيع بدائل المياه الأخرى ( أي الصهاريج والمياه المعبأة بالقوارير) التي يعتمد عليها اللبنانيون للتعامل مع نقص المياه . وقد ارتفعت أسعار هذه البدائل بشكل كبير، وفي بعض الحالات تضاعفت مرتين أو ثلاثاً مقارنة بشهر كانون الثاني 2021. وقد جعل الانخفاض الحاد في قيمة الليرة من الصعب على مؤسسات المياه شراء قطع الغيار والمعدات المسعّرة بأغلبيتها بالدولار.
وشهدت مؤسسة البقاع للمياه ارتفاعاً في تكاليف التشغيل والصيانة، وقد شملت هذه التكاليف معدات اختبار المياه ومياه الصرف الصحي والمواد الاستهلاكية الأخرى وتراخيص البرمجيات والمستحقات الى بعض المقاولين المدفوعة مباشرة بالدولار. ومن الأهمية الإشارة الى انه وبالإضافة الى بنود التكلفة المذكورة أعلاه والتي يتم شراؤها مباشرة بالدولار، فان المعدات الرئيسية الأخرى مثل كواشف المعالجة والتطهير ترتبط أيضا بالعملة الصعبة حتى ولو لم يتم شراؤها مباشرة بالدولار.
توقعات خابت
وفي التحديث الذي اجري على الاستراتيجية الوطنية لقطاع المياه في العام 2019، كان من المتوقع أن تشهد جميع مؤسسات المياه زيادة حادة في إيرادات الفواتير لأسباب منها اضافة عملاء جدد وتطبيق تعرفات أعلى وتحسين الجباية. الا أن هذه التوقعات لم تتحقق وشهدت جميع المؤسسات انخفاضاً في تحصيل الإيرادات مما زاد من تفاقم العجز التشغيلي فيها. هذا وتعاني مؤسسات المياه من استنزاف الموارد البشرية، فرواتب الموظفين بالليرة قد أثرت على قدراتهم الشرائية، كما أسفرت أزمة الوقود عن إضافة تكاليف نقل إضافية على اعبائهم، وهذه الأسباب مجتمعة أدّت الى تغيبهم عن الحضور الى المكاتب وهذه مشكلة مشتركة بينهم وبين الإدارة العامة.
وبطبيعة الحال، ستكون هناك ضغوط متزايدة في مرحلة ما على مؤسسات المياه لزيادة الرواتب لكي تعوض على الأقل جزءاً من الخسارة في القوة الشرائية للموظفين، علما أن زيادة الرواتب سوف تعتمد على قرار حكومي.
الى ذلك، يشكل عدم وجود بيانات مالية مدققة لمؤسسات المياه عائقاً أمام اجراء أي تدقيق مالي موثوق به لتقييم أدائها. وبالنسبة لمؤسسة مياه البقاع كان من المتوقع ان يرتفع استرداد التكاليف (المحسوب على أنه تدفق نقدي/ اجمالي نفقات التشغيل) من 0.58 في العام 2019 الى 0.76 في العام 2024. وظل مؤشر نفقات التشغيل بين عامي 2019 و2020 ثابتاً عند حوالى 23 مليار ليرة على الرغم من الانخفاض الحاد في قيمة العملة. مما يعني انخفاضاً في مستوى الخدمة والعمليات نظراً للزيادة في تكاليف الطاقة والوقود والصيانة.
هذا وتتوقع مؤسسة مياه الشمال ان تنخفض نسبة استرداد التكاليف من 0.74 الى 0.58 خلال هذه الفترة ويرجع ذلك أساساً الى انخفاض تحصيل الإيرادات. وفي حزيران 2021، تم نقل التشغيل والصيانة لمحطات معالجة الصرف الصحي رسمياً من مجلس الانماء والاعمار الى مؤسسات المياه. ومع ذلك ليس من الواضح ما اذا كان هذا قد تم تنفيذه بالفعل. وفي حالة مؤسسة البقاع، فان ذلك يشمل محطات المعالجة في زحلة وبعلبك وجب جنين وصغبين، ووفقا للمعلومات المتاحة من مؤسسة مياه البقاع، فان هذه العقود سوف تزيد من عبء التشغيل والصيانة السنوي بمقدار 2.7 مليار ليرة الى 4.5 مليارات (على سعر 1500).
واذا ما استخدمنا العام 2018 كسنة أساس، تشير التقديرات الى ان التكاليف التشغيلية السنوية للمؤسسات الأربع قد بلغت 105 ملايين دولار وأكثر من نصف هذه التكاليف تأتي من مؤسسة بيروت وجبل لبنان. ومع ذلك ونظراً لحجمها وقاعدة عملائها فهي أيضا المنشأة الوحيدة التي قد توصلت الى استرداد تكاليف التشغيل في العام 2020 على الرغم من أن النفقات الرأسمالية لا يمكن تغطيتها. وتجدر الإشارة الى محدودية تقدير التكاليف التشغيلية بالاستناد الى البيانات المالية المتوقعة لمؤسسات المياه وذلك بسبب عدم وجود تدقيق فيها.
التأثير على السكان
يعتمد معظم السكان على خزانات المياه والمياه المعبأة التي يملكها القطاع الخاص للتعامل مع النقص في الامداد من قبل مؤسسات المياه. بينما يتلقى السكان غير المتصلين بالشبكة امدادات المياه من مزيج من المصادر مثل صهاريج المياه، سرقة المياه، والمصادر الخاصة والبلدية. ومع استمرار انقطاع التيار الكهربائي، فان الامداد قد ينخفض الى 35 ليتراً للفرد في اليوم مقابل المعتاد وهو 165.
هذا وتؤكد الردود الواردة من استطلاع اجراه الفايسبوك من قبل البنك الدولي في حزيران 2021 على التحليلات التالية:
– معظم السكان لا يتلقون امدادات المياه من مؤسسات لبنان وأقل من ربع المشاركين في الاستطلاع لديهم اتصال بالمرفق، ولا تعتمد أغلبيتهم على امداد الخدمة من قبل المرافق العامة وبالمقابل يعتمدون على المياه المعبأة.
– يعيش أربعة من كل خمسة أشخاص في مناطق تقل فيها امدادات المياه يومياً عن 6 ساعات. في حين افاد 15% فقط بان امدادات المياه تزيد عن 12 ساعة.
– هناك اعتماد مفرط على المياه المعبأة وصهاريج المياه، فخلال العام الماضي ارتفع سعر الصهريج من 9 آلاف ليرة الى 30 الف ليرة للمتر المكعب الواحد الى 75-125 الفاً مقارنة مع الف ليرة في اليوم للمتر المكعب من امدادات مياه الحنفية. وقد وصل سعر صهريج المياه الى 250 الف ليرة في بعض المناطق ومن المرجح أن تزيد تكلفة امدادات المياه من مصادر بديلة في مواجهة انهيار نظام المياه العام بنحو 200%، ومن المؤكد أن يؤثر ذلك بشدة على الفقراء وأكثر الفئات ضعفاً في المجتمع.
الحلول القصيرة والمتوسّطة الأجل… لأزمة الشح
على المدى المتوسط، ينبغي أن تتضافر الجهود لتحسين قدرة مؤسسات المياه على أن تصبح كيانات ذات مصداقية يمكن للسكان الاعتماد عليها للحصول على الخدمات الأساسية؛ وكان التآكل التدريجي لثقة المواطنين في المرافق سمة ثابتة على مدى العقد الماضي. ففي حين اعتمد السكان على القطاع الخاص لسد الفجوة الخدمية، أظهرت الازمة الأخيرة أن القطاع الخاص لا يمكنه أن يحل محل مؤسسات المياه تماماً عندما يتعلق الامر بتقديم الخدمات على مساحة جغرافية كبيرة. وفي الوقت نفسه يمكن اتخاذ بعض التدابير لتقليل الاعتماد على الكهرباء المتصلة بالشبكة، وتشمل الحلول الالواح الشمسية لمحطات معالجة المياه واحداث منشأة لتوليد الغاز الحيوي للمحطات المتوسطة والكبيرة الحجم، وتخزين المياه السطحية عندما يكون ذلك ممكنا للمساعدة في إدارة الضغط على الشبكة والتكرار في نظام التوزيع بحيث يمكن تزويد منطقة واحدة من مصادر مختلفة.
في حين ان معالجة انعدام امن الطاقة وعدم الاستقرار المالي امر بالغ الأهمية لتحسين موثوقية واستدامة خدمات المياه، يمكن على المدى القصير تخفيف الأثر على السكان الأكثر تأثراً بالأزمة من خلال: دعم نقدي ومعدات من شركاء التطوير للمثابرة على تقديم الحد الأدنى من الخدمات. وهذه قد تكون على شكل عملة صعبة أو مشتريات من الوقود وقطع غيار لمحطات الضخ والمعالجة. ويمكن أن تتعاقد مؤسسات المياه مع الصهاريج لحالات الطوارئ لضمان توصيل المياه العامة الى المناطق المنخفضة الدخل التي تعاني من نقص حاد في امدادات المياه. وفي هذه الحالة، يمكن أن تتعاقد المؤسسات مع أصحاب الصهاريج لإيصال المياه الى الأسر ذات الأوضاع المعيشية الصعبة وفق أسعار قريبة لسعر مياه البلدية واعتماد المياه من الانابيب الاحتياطية أو الخزانات لتأمين المياه في حالات الطوارئ.