أدى الانهيار السريع لمجموعة «إس.في.بي» أو «سيليكون فالي بنك» إلى صدمة في الصناعة المصرفية الأميركية أعادت للأذهان شبح الأزمة المالية العالمية في 2008، بعد أن باتت مليارات الدولارات المملوكة لمودعين من شركات ومستثمرين في مهب الريح.
وأدت الأزمة إلى محو أكثر من 100 مليار دولار من القيمة السوقية لأسهم البنوك الأميركية خلال يومين، فيما تكبدت البنوك الأوروبية خسائر بنحو 50 مليار دولار والكندية 14 ملياراً أخرى…
يركز «سيليكون فالي بنك» على الشركات الناشئة ويتخذ من سانتا كلارا مقرّاً، وتم تصنيف البنك في المركز السادس عشر بين البنوك الأميركية في نهاية العام الماضي، بأصول تبلغ نحو 209 مليارات دولار. واتخذت السلطات التنظيمية لقطاع المصارف في كاليفورنيا قراراً بإغلاق البنك وعينت المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع كمستلم للتصرف في وقت لاحق بأصوله.
ما الأسباب؟
يقول محللون إن للانهيار هذه المرة مجموعة فريدة من الظروف، لكنه في الوقت ذاته يثير تساؤلات حول نقاط الضعف الخفية التي قد تكون لها عواقب على العملاء والموظفين في البنوك وربما تسلط الضوء على المشكلات التي تعاني منها بنوك أخرى.
يقول الخبراء إن أسباب انهيار البنك متنوعة لكنّ رفع مجلس الاحتياطي الاتحادي لأسعار الفائدة بقوة على مدار العام الماضي، مما عقّد الأوضاع المالية لقطاع الشركات الناشئة الذي ينشط فيه البنك، كان عاملاً أساسياً.
ورفع مجلس الاحتياطي أسعار الفائدة من مستوياتها القياسية المنخفضة منذ العام الماضي لمكافحة التضخم، مما قلص شهية المستثمرين للمخاطرة، إذ باتت الأموال المتاحة لهم باهظة التكلفة بسبب أسعار الفائدة المرتفعة، أثّر ذلك سلباً على الشركات الناشئة في قطاع التكنولوجيا، وهم العملاء الأساسيون لدى البنك، لأنه جعل مستثمريهم أكثر عزوفاً عن المخاطرة.
أدت أسعار الفائدة المرتفعة إلى شبه توقف لسوق الطروحات العامة الأولية للعديد من الشركات الناشئة وتسببت في أن أصبح جمع التمويل من مستثمري القطاع الخاص أكثر كلفة، مما دفع بعض عملاء البنك لسحب الأموال لتلبية احتياجاتهم من السيولة.
لتمويل عمليات الاسترداد، باع البنك محفظة سندات بقيمة 21 مليار دولار تتكون في الغالب من سندات خزانة أميركية. خسر البنك 1.8 مليار دولار في سندات الخزانة التي تدهورت قيمتها بسبب زيادات أسعار الفائدة الأميركية. كانت المحفظة تحقق عائداً 1.79% في المتوسط، ما يقل بكثير عن متوسط عائد سندات الخزانة لأجل عشر سنوات عند نحو 3.9%، مما جعله بحاجة لسد فجوة كبيرة عبر زيادة رأس المال.
عقب ذلك، أعلن البنك أنه سيبيع 2.25 مليار دولار من الأسهم العادية والأسهم القابلة للتحويل لسد فجوة التمويل. دفع ذلك أسهم البنك لتهوي 60% إذ انتابت المستثمرين المخاوف من أن عمليات سحب الودائع قد تدفعه إلى زيادة رأس المال.
أفادت تقارير أن بعض عملاء البنك سحبوا أموالهم بناء على نصيحة من شركات رأس المال المغامر مثل صندوق «فيوتشر» التابع لشركة «بيتر ثيل». أثار هذا فزع المستثمرين مثل جنرال أتلانتيك من أن البنك يجهز لبيع أسهم وانهارت جهود البنك لزيادة رأس المال.
سارع البنك لإيجاد تمويل بديل، بما في ذلك من خلال بيع البنك. لكن في وقت لاحق من نفس اليوم أي الجمعة، أعلنت المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع أنه تم إغلاق البنك ووضعه تحت الحراسة القضائية.
الإنهيار الأكبر منذ 2008
إنهيار البنك هو الأكبر منذ انهيار «واشنطن ميوتشوال» في عام 2008 وهو الحدث الذي أطلق أزمة مالية عرقلت الاقتصاد لسنوات. وأدى الانهيار في عام 2008 إلى فرض قواعد أكثر صرامة في الولايات المتحدة وخارجها على القطاع المصرفي. منذ ذلك الحين، فرضت الجهات التنظيمية متطلبات رأسمالية أكثر صرامة على البنوك الأميركية بهدف ضمان أن انهيار البنوك الفردية لن يضر بالنظام المالي والاقتصاد الأوسع نطاقاً. ومن المقرر أن تتم إعادة فتح المقر الرئيسي وجميع فروع بنك وادي السليكون اليوم الثالث عشر من مارس/آذار، وسيحصل جميع المودعين، المؤمّن على ودائعهم، على أموالهم كاملة في موعد لا يتجاوز صباح الإثنين وفقاً لما أعلنته المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع.
لكن تظل هناك مشكلة، إذ إن 89% من ودائع البنك البالغة 175 مليار دولار لم يكن مؤمناً عليها حتى نهاية 2022، وبالتالي لا أحد يعرف مصيرها.
جهود الإنقاذ
تقول مصادر إن المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع تسابق الزمن للعثور على بنك آخر على استعداد للاندماج مع البنك المنهار لحماية الودائع غير المضمونة، لكن توصلها إلى ذلك سريعاً محل شك.
خلال الأزمة المالية العالمية لعام 2008، وجد «واشنطن ميوتشوال» مشترياً على الفور، لكن بالنسبة إلى بنك «إندى ماك» في عام 2009 استغرق الأمر حوالى ثمانية أشهر. وأفادت مصادر أن صناديق تحوط عرضت شراء ودائع الشركات الناشئة العالقة لدى البنك مقابل 60 سنتاً للدولار. وقال التقرير إن العطاءات تراوحت من 60 إلى 80 سنتاً للدولار مما يعكس التوقعات بشأن الودائع غير المؤمنة التي سيتم استردادها في النهاية بمجرد بيع أصول البنك أو تصفيتها.
في الوقت نفسه، يدرس «بنك لندن» المتخصص في نشاط المقاصة في بريطانيا، القيام بمحاولة إنقاذ الذراع البريطانية للبنك المتعثر، وعيّن البنك البريطاني بنك الاستثمار «بيريلا واينبرغ بارتنرز» لتقديم المشورة له.
كان «بنك إنجلترا» أعلن سعيه للحصول على أمر من المحكمة لإجبار الوحدة البريطانية «إس.يو.في يو.كيه» على بدء إجراءات إفلاس.
بشكل منفصل، تعمل مؤسسة «إس.في.بي فايننشال» الشركة الأم لبنك سليكون فالي مع بنك الاستثمار «سنتر فيو بارتنرز» وشركة المحاماة «سوليفان آند كرومويل» للعثور على مشترين لأصولها الأخرى، والتي تشمل بنك الاستثمار «إس.في.بي سيكيوريتيز»، وشركة إدارة الثروات «بوسطن برايفت» وشركة أبحاث الأسهم «موفيت ناثانسون». لكن ليس من الواضح إذا ما كان أي مشترٍ سيتقدم لشراء هذه الأصول دون أن تعلن «إس.في.بي فايننشال» إفلاسها بسبب الالتزامات المترتبة عليها.
قلق في صفوف المودعين
أثارت الأزمة قلقاً في صفوف المودعين من الشركات الناشئة، فقد أعلنت شركة «روبولوكس كورب» لصناعة ألعاب الفيديو وشركة «روكو» لإنتاج أجهزة صناعة البث إنهما تملكان ودائع بمئات الملايين من الدولارات في البنك. وقالت «روكو» إن ودائعها لدى البنك غير مؤمّن عليها بشكل كبير مما دفع أسهمها للانخفاض 10%.
يقول خبراء إن انهيار إس.في.بي يكشف كيف أن الحملة التي يشنها البنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية لمكافحة التضخم عبر إنهاء فترة «الأموال الرخيصة» تكشف عن نقاط ضعف في السوق. بالطبع تسبب ذلك في موجة من القلق في القطاع، وسارعت البنوك لإصدار بيانات تؤكد فيها أن موقفها المالي ثابت على غرار بنك «فيرست ريببلك بنك» وبنك «ويسترن أليانز» اللذين قالا إن السيولة والودائع لديهما قوية بهدف تهدئة المستثمرين. بينما أصدر «كومرتس بنك» الألماني بيانات استثنائية لطمأنة المستثمرين.
حمّام دم
يتوقع بعض المحللين متاعب قادمة للقطاع المصرفي، إذ أدى انهيار البنك لانتشار القلق بشأن المخاطر الخفية في القطاع وتأثره الشديد بارتفاع تكلفة الأموال.
وقال «كريستوفر والين» رئيس مجلس إدارة «والين جلوبال أدفيسرز» للاستشارات: «قد يكون هناك حمام دم الأسبوع الجاري… البائعون على المكشوف موجودون وسيهاجمون كل بنك، وخاصة البنوك الأصغر حجماً».
قال البيت الأبيض إنه يثق في الجهات التنظيمية للقطاع المالي في الولايات المتحدة رداً على سؤال بشأن إخفاق «إس.في.بي». كما أعلنت وزارة الخزانة الأميركية أن وزيرة الخزانة جانيت يلين التقت مع السلطات المنظمة للقطاع المصرفي وأعربت عن ثقتها الكاملة في قدراتهم للاستجابة للوضع.
تبعات غير مسبوقة
يقول الخبراء إن انهيار «إس.في.بي» قد يؤدي لانهيار الثقة وتشديد جديد للوائح وتشكك المستثمرين بشأن المتانة المالية للبنوك الأصغر التي كان ينظر إليها على أنها تتمتع برأس مال كافٍ، بعد أن أجبرت الجهات التنظيمية البنوك على الاحتفاظ بمزيد من رأس المال في أعقاب أزمة 2008.
وقالت «شيلا بير» التي كانت ترأس المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع خلال الأزمة المالية العالمية، في مقابلة إن هيئات الرقابة على البنوك من المرجح أن تحول انتباهها الآن إلى البنوك الأخرى التي قد يكون لديها الكثير من الودائع غير المؤمّن عليها وخسائر غير محققة.
وقال بير: «إن هذه البنوك التي لديها مبالغ كبيرة من أموال المؤسسات غير المؤمنة… ستتحول هذه إلى أموال ساخنة يتم سحبها إذا كانت هناك مؤشرات على وجود مشكلة».
قالت «ماريا رودريغيز فالاداريس» المستشارة المتخصصة في المخاطر المالية التي تقدم تدريباً للمصرفيين والجهات التنظيمية: «البنوك تمثل مناطق قاتمة، لذلك على الفور يقول الجميع مهلاً ما مدى ارتباط هذا البنك بآخر… المستثمرون والمودعون لا يريدون أن يكونوا آخر من يعلم، لذلك يتعين عليهم التخارج».
آثار محدودة على البنوك الكبيرة
على الجانب الآخر، يقول العديد من الخبراء إن أي آثار مضاعفة في بقية القطاع المصرفي قد تكون محدودة. فالمؤسسات الأكبر حجماً لديها محافظ أكثر تنوعاً وعملاء أكبر من المودعين في «إس.في.بي». كما يشير البعض إلى اعتماد كبير من جانب «إس.في.بي» على قطاع الشركات الناشئة. وقال «ديفيد ترينر» الرئيس التنفيذي لشركة «نيو كونستركتس» لأبحاث الاستثمار: «لا نعتقد أن ثمة مخاطر عدوى لبقية القطاع المصرفي… قاعدة الودائع في البنوك الكبرى أكثر تنوعاً بكثير من إس.في.بي، والبنوك الكبرى تتمتع بوضع مالي جيد».