عندما يجري الحديث عن المخاطر التي تهدد كوكب الأرض، تنصب الاتهامات حول الوقود الأحفوري، وما ينتج عنه من غاز ثاني أكسيد الكربون، وإنتاج اللحوم الحمراء، وما ينجم عنه من غاز الميثان. ولكن هناك عدو آخر للبيئة لا يقل عنهما خطرا، تسلل خلال أقل من نصف قرن داخل بيوتنا وغرف نومنا وأماكن عملنا والسيارات التي نتنقل بها، هو المكيفات. فماذا فعلنا لنحد من آثاره السلبية على البيئة؟
قد لا يحسم الجدل حول صحة الاتهامات الموجهة إلى أنظمة التبريد في الأبنية وتحميلها مسؤولية انتشار فايروس كورونا، إلا أن الجميع يتفق حول قائمة الأضرار الصحية التي تتسبب بها المكيفات، سواء كان ذلك في المنازل أو المرافق العامة، ابتداء بالصداع ونزلات البرد، مرورا بجفاف الجلد وضغط الدم والتهاب المفاصل والأعصاب، وصولا إلى التلوث الضوضائي.
مصدر للعدوى
وكانت صحيفة “ديلي ميل” البريطانية قد أكدت في تقرير نشرته مؤخرا وجود آثار لفايروس كورونا في مجرى الهواء بالمستشفيات، حيث نقلت عن باحثين أن الفايروس ينتقل بسهولة عن طريق التكييف، وقد يكون مصدرا جديدا من مصادر العدوى.
وأكدت عالمة الفايروسات الإيطالية، إيلاريا كابوا، انتشار الفايروس من خلال مكيفات الهواء، وقالت إن الجزيئات تبقى في المجرى لفترة طويلة.
رغم ذلك، تبقى المخاطر الصحية محدودة إذا ما قيست بالمخاطر البيئية والاقتصادية الناتجة عن استخدام أجهزة التكييف “عدو البيئة رقم واحد”، خاصة بعد انتشارها الواسع مع مطلع السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، لتصبح رمزا للطبقات الاجتماعية الوسطى، في الدول النامية، حيث بات الناس يعتبرونها ضرورة من ضروريات الحياة. بل، ساهمت حسب الكثيرين في تغيير نمط الحياة في الدول الحارة.
ومع تكاثر هذه الأجهزة على كل شباك ودكان تقريبا في العالم، ازداد قلق العلماء من عواقب ارتفاع نسبة استخدام الغازات الضرورية لتشغيل أجهزة التكييف؛ إذ تزيد تلك الغازات القوية التسخين العالمي. وبحسب العلماء، فإن زيادة حجم الطبقات الوسطى، بالإضافة إلى استمرار ارتفاع درجات الحرارة، يزيد مدى بيع مكيفات الهواء.
ومن هنا جاءت اتفاقية مونتريال عام 1987، التي حاولت تنظيم استخدام غازات أجهزة التكييف، من خلال وضع أنظمة ومواصفات لاستخدام تدريجي للغازات الأقل ضرراً، فقد نجحت تلك الاتفاقية التي هدفت إلى حماية طبقة الأوزون، طيلة بضع سنوات، في تقليص الضرر الحاصل لتلك الطبقة الحيوية التي تحجز الأشعة فوق البنفسجية المسرطنة.
لكن اللافت أن اتفاقية مونتريال تتجاهل، بشكل شبه تام، تأثير غازات المكيفات؛ رغم أن مساهمتها في عملية الاحترار العالمي أكبر بآلاف المرات من انبعاثات غاز الدفيئة المتمثل بثاني أكسيد الكربون، ليتضح لاحقا أن حل كارثة بيئية معينة يؤدي، أحيانا، إلى كارثة بيئية أكبر.
كل المؤشرات تدل على أن الاتجاه الذي تبنته اتفاقية مونتريال، وتبناه معها العالم، غير سليم. فتركيز الغازات التي استبدلت غازات التبريد في الغلاف الجوي، والتي تتسبب في أذى للأوزون، يواصل الارتفاع بسرعة. والملاحظ أن مستوى هذه الغازات التي يعتمد عليها الاستخدام المتنامي للمكيفات، قد ارتفع بأكثر من الضعفين خلال السنوات العشرين الأخيرة؛ ما يعد مستوى قياسيا غير مسبوق. كما أن تركيز الغازات الصديقة للأوزون ارتفع هو الآخر بشكل مذهل، نظراً لتحول الدول الصناعية إلى استخدامها، منذ نحو عشر سنوات. ويعد أثر الدفيئة الخاص بهذه الغازات أضعافا مضاعفة لتأثيرات ثاني أكسيد الكربون.
والمشكلة أن اتفاقية مونتريال لم تختص في الرقابة على ارتفاع هذه العوامل، لأنها تنظم فقط استخدام الغازات التي ترقق طبقة الأوزون.
تبريد المبنى اليوم بالنسبة للكثيرين أهم من تدفئته. وهذا يشمل مناطق عديدة في الولايات المتحدة، ناهيك عن أفريقيا وجنوب شرق آسيا ودول عديدة في أميركا اللاتينية.
تبريد الهواء داخل الغرف أصبح حقا مكتسبا لمن استطاع إليه سبيلا، والمشكلة أن ذلك يتم على حساب حرارة الهواء في الخارج، لتصبح شوارع المدينة أكثر سخونة. هذا إلى جانب أن هذه الأجهزة تستهلك طاقة كهربائية كبيرة.
والسؤال الذي يجب أن يطرح هو “في الوقت القليل المتبقي والثمين المتاح أمامنا، ماذا يمكن أن نفعل لحل مشكلة التبريد وإنقاذ البيئة من غازات المكيفات؟”.
حتى الآن، انصبت جهود العلماء على تطوير نظام تبريد إشعاعي منخفض التكلفة، يعمل على مساحات واسعة دون الحاجة إلى الكهرباء، ما يفتح آفاق تكييف المباني خاصة، والبيئات الحضرية عامة.
يعتمد النظام على إستراتيجية تبريد سلبي؛ إذ يعمد إلى فقد الحرارة وتبديدها عن طريق إشعاعها محمولةً على أطياف ضوئية غير مرئية، وإرسالها من المباني إلى الفضاء الخارجي البارد عندما يصفو جو السماء.
من حيث الشكل، تعمل هذه الإستراتيجية من خلال تراكيب مستوية، عديدة الطبقات، مصنوعة من أغشية لدائن مخلقة، لها القدرة على استخلاص حرارة المكان واستجماعها، ثم إرسالها إلى الجو، فإلى الفضاء.
بعض هذه التراكيب – التي قد تكون كبيرةً أو صغيرة – له قدرة على التبريد تدور حول مئة وات لكل متر مربع. وبهذا يُستغنى عن أنظمة التبريد التي تستخدم مكونات مثل المضخات والمراوح في المكيفات، وتعمل ميكانيكيًّا باستهلاك طاقة كهربية كبيرة مكلفة.
لكن معظم أنظمة التبريد الإشعاعي التجارية تعمل ليلًا فقط، عندما تكون الظروف الجوية في حالتها المُثلى، لاسيما من حيث صفاء السماء وانخفاض الرطوبة، في حين تشتد الحاجة إلى تبريد فعال عندما تكون الشمس في كبد السماء، وتكون ماسَّةً عندما يكون الحر في أشده.
ويكرس الخبراء العاملون على تطوير هذه التكنولوجيا جهدهم للتوصل إلى حلول يتجاوزون من خلالها هذه الثغرة الزمنية، يتاح من خلالها استخدام هذه التكنولوجيا الجديدة على مدار الساعة، من خلال ابتكار تراكيب من مواد تتمتع بقدرة العمل نهارًا.
البحث عن بدائل
ورغم وجود تصميمات ومواد حديثة تحقق فاعليةً وجدوى في استخدامها بأنظمة التبريد خلال النهار، فإن تكلفتها وأثمانها باهظة عند الاستخدام التجاري.
يبدو أن الحلول الكبيرة تأتي دائما من أفكار بسيطة، بل قد يكون الحل ماثل أمامنا دون أن ننتبه له. حدث ذلك مع إسحاق نيوتن عندما اكتشف قانون الجاذبية إثر سقوط تفاحة على رأسه، صارخا: وجدتها!
هناك من يصرخ الآن ويقول: وجدت الحل لمشكلة غازات المكيفات. وهو طلاء يمكن أن يصبح بديلا بكل معنى الكلمة، عن مكيفات الهواء، لأنه حتى تحت تأثير أشعة الشمس المباشرة يبقى أبرد من الهواء المحيط به.
يقترح العلماء طريقة اقتصادية لحل مسألة تبريد المباني التي تسخنها أشعة الشمس في البلدان الحارة. وهذه الطريقة، هي استخدام طلاء غير عادي ناصع البياض، يعكس طاقة الشمس إلى الفضاء بثلاث طرق في وقت واحد.
أولا، يعكس الطلاء 95.5 في المئة من ضوء الشمس الساقط عليه. وثانيا، يعكس الجزء الأكبر من الأشعة فوق البنفسجية من خلال عكس أشعة الشمس المباشرة، دون أن يسخن بتأثيرها. وثالثا، تنبعث منه موجات الأشعة تحت الحمراء، تصل في اليوم المشمس إلى أكثر من 37 وات من المتر المربع الواحد. وهذه الموجات تنبعث من الطلاء في النطاق الضيق، حيث يكون الغلاف الجوي للأرض شفافًا. وهكذا فإن السطح المطلي “يطلق إلى الفضاء” الحرارة التي يحصل عليها من ملامسة الهواء المحيط.
وقد أظهرت الاختبارات، أنه حتى في وقت الظهيرة تكون درجة الحرارة أبرد بمقدار 1.7 درجة مئوية من الهواء. وفي الليل، يكون الفرق أكبر ويصل إلى 10 درجات مئوية.
وتجدر الإشارة، إلى أن محاولات ابتكار مثل هذا الطلاء بدأت في سبعينات القرن الماضي، والآن تكللت بالنجاح. والمثير في الأمر، أن كربونات الكالسيوم تشكل أساس هذا الطلاء (60 في المئة) والباقي طلاء أكريليك تقليدي. والميزة الوحيدة فيه، هي أن دقائق كربونات الكالسيوم المستخدمة ذات أحجام مختلفة، ما يعطيه خصائص بصرية خاصة.
محاولات أخرى لحل مشكلة التبريد انصبت على الملابس، حيث توصل علماء إلى ابتكار نوع من النسيج يتيح للجسم تبريد نفسه طبيعيا، مهما بلغت حرارة الصيف، وتصبح ملابس العمل الرسمية في المكاتب مريحة، كما في ملابس السباحة.
الأشخاص الذين يضطرون إلى ارتداء ملابس رسمية، تماشيا مع متطلبات العمل وظروفه، يعتمدون عادة على مكيفات الهواء بشكل مبالغ فيه لتبريد محيط العمل، الآن سيتيح لهم النسيج الجديد إمكانية تبريد أنفسهم بشكل طبيعي، ليشعروا براحة أكبر، مع توفير نفقات مكيفات الهواء.
يتكون النسيج الجديد من ثلاث مواد: بولي يوريثان، والبولي يوريثان المفلور، ونتريد البورون ثنائي الأبعاد، الذي يغطي الألياف، التي تبقى بينها مسام واسعة، تسمح للجلد بالتلامس مع الهواء الجوي وتبخر العرق. كما أن نتريد البورون يمنح النسيج خاصية مذهلة للتوصيل الحرارة، ما يمنع تراكم حرارة الجسم تحت الملابس، وتحررها إلى الوسط المحيط.
والمثير في الأمر، أن هذا النسيج لا يسمح بنفاذ الماء من خارج الجسم، وذلك بفضل طبقة بولي يوريثان الخارجية الطاردة للماء.
ويؤكد الباحثون أن تكلفة إنتاج هذا النسيج أرخص وإنتاجه أسهل من إنتاج مواد التبريد الذاتية الأخرى. وعلاوة على صلاحيته لصنع الملابس، يمكن استخدامه في الصناعات الإلكترونية، وكذلك في تحلية مياه البحر أيضا.
بالتأكيد، كل هذه الجهود هي مجرد خطوات بسيطة، ولكنها خطوات جادة، للتغلب على المشكلة، والإجابة على السؤال المطروح، ماذا يمكن عمله للتغلب على مشكلة الاحترار وإنقاذ كوكب الأرض من عدو البيئة، الذي يجمع الخبراء اليوم، أنه العدو رقم واحد؟