اجتماعات “الخريف”: هموم اقتصاديّة عالميّة ولبنان خارج التغطية

على مدى أيّام الأسبوع الماضي، شهدت واشنطن “اجتماعات الخريف” التي نظّمها صندوق النقد والبنك الدوليين، بمشاركة آلاف المسؤولين الذين يمثّلون مصارف مركزيّة ووزارات ماليّة ومنظمات المجتمع المدني. وكما هي العادة، كانت تلك الاجتماعات مناسبة لمناقشة أبرز التحديات التي تعصف اليوم بكبرى الاقتصادات العالميّة: من مخاطر الحروب التجاريّة، إلى مآلات الصراعات الجيوسياسيّة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، وصولًا إلى المخاوف المرتبطة بنتائج الانتخابات الأميركيّة، وارتفاع معدّلات الديون السياديّة، وهشاشة أطر التعاون الاقتصادي العابر للحدود. التقارير التي جرى عرضها خلال الاجتماعات، عكست “صمود” الاقتصاد العالمي حتّى اللحظة أمام كل هذه المخاطر، لكنّها عكست أيضًا هموم الحاضرين وتوجّسهم من حالة “عدم اليقين الشديد” الراهنة.

خلال شهر نيسان الماضي، عند عقد الجولة السابقة من هذه الاجتماعات، أشارت “المدن” في تغطيتها إلى أنّ “فصول العالم تتقلّب إلّا في لبنان”، بحكم الأزمة الماليّة التي جعلت هذا البلد معزولّا عن كل تقلّبات وتحوّلات الاقتصاد العالمي. هذه المرّة أيضًا، لم يكن لبنان المأزوم معنيًا بكل النقاشات الدائرة حول أسعار الفوائد وتدفّق الرساميل والاستثمارات. غير أنّ الجديد اليوم، كان خروج البلاد عن التغطية كليًا، بعدما امتنع صندوق النقد عن إعطاء أي تقدير لنسبة النمو المتوقّعة هذا العام. في ظل الحرب الدائرة، وأمام توالي الخسائر التي تتراكم مع مرور كل يوم، لم يعد هناك ما يسمح بتقديم توقّع من هذا النوع.

التفاؤل بانخفاض التضخّم العالمي
كان تقرير “آفاق الاقتصاد العالمي”، الصادر عن صندوق النقد الدولي، أبرز ما جرى الإفصاح عنه على هامش تلك الاجتماعات، لتقديم معطيات يُمكن في ضوئها البحث في التحديات القائمة اليوم. في ذلك التقرير، توقّع الصندوق أن تنخفض معدلات التضخّم العالميّة من 5.7% عام 2023 إلى 5.3% هذه السنة، وصولًا إلى 3.5% العام المقبل. هكذا، كان ثمّة ما يدعو الحاضرين للتفاؤل بقرب انتهاء عاصفة التضخّم التي ضربت الأسواق العالميّة منذ العام 2021، والتي بلغت ذروتها عام 2022 بنسبة ناهزت الـ 8.8%.

وكما هو معلوم، أطلقت موجة التضخّم سياسات التيسير النقدي وضخ السيولة في مرحلة تفشّي وباء كورونا، والتي تلاها اشتداد الطلب مقابل ضُعف سلاسل التوريد في مرحلة “ما بعد الوباء” عام 2021. هكذا، ولد التضخّم من رحم السياسات التي تعاملت مع تداعيات تفشّي الوباء، ثم من رحم التعافي وارتفاع معدلات الاستهلاك في حقبة التعافي من تدعيات الوباء.

ولخفض معدلات التضخّم، كما جرى بالفعل الآن، كان على المصارف المركزيّة أن تنتهج ما يُعرف بسياسات التشديد النقدي منذ العام 2022: أي رفع معدلات الفائدة، لامتصاص السيولة، ولجم الإقراض. هذه الوصفة المؤلمة، هي السلاح التقليدي الذي تفضّله المصارف المركزيّة الغربيّة، وهذا ما تمّ استعماله بالفعل لمكافحة التضخّم وضبط جنونه. وهذا ما نجح بالفعل، وفقًا لأرقام صندوق النقد الدولي، بمعزل عن الانتقادات الموجّهة لآثار سياسات التشديد النقدي.

لكنّ لسياسات التشديد النقدي، ورفع الفوائد، آثارها المؤلمة على مستوى الاقتصاد الكلّي. معدلات الفوائد المرتفعة، تعني تلقائيًا المزيد من الضغط، الذي يلجم النمو الاقتصادي ويحدّ منه. التفاؤل بانخفاض معدلات التضخّم اليوم، هو أيضًا تفاؤل بقرب انتهاء حقبة التشديد النقدي، ورفع “بلاطة الفوائد” عن صدر الاقتصادات الكبرى. والاحتياطي الفيدرالي الأميركي بالذات، كان قد باشر خفض فوائده في شهر أيلول الماضي، للمرّة الأولى منذ العام 2020، مفتتحًا النهاية السعيدة لحقبة الفوائد المرتفعة. هنا، بات بإمكان الاقتصاد العالمي أن يتنفّس أكثر.

الاقتصاد العالمي يُظهر مرونة
مع انتهاء موجة التشديد النقدي، وبدء مرحلة خفض الفوائد، يكون الاقتصاد العالمي قد تجاوز أبرز التحديات التي واجهته خلال السنوات الماضية. غير أن تقرير الصندوق يشير كذلك إلى نوعيّة التحديات والمصاعب التي تراكمت وتقاطعت خلال السنوات نفسها: من تفشّي الجائحة، إلى الأحداث المناخيّة المتطرّفة، وأزمات الطاقة والغذاء، بالإضافة إلى اضطرابات سلاسل التوريد الناتجة عن الصراعات الجيوسياسيّة.

ورغم كل هذه التحديات، أظهر الاقتصاد العالمي مرونة تدفع إلى التفاؤل، بعدما حافظ حتّى العام الماضي على نسبة نمو تقارب الـ 3.3%، مقارنة بـ 3.6% خلال العام 2022، و6.6% خلال العام 2021. غير أن هذا النمو لم يكن متكافئًا –خلال العام الماضي- بين مناطق العالم المختلفة، إذ بلغ على سبيل المثال 2.9% في الولايات المتحدة الأميركيّة، مقارنة بـ 0.4% في منطقة اليورو، و0.3% في المملكة المتحدة، و1.7% في اليابان. أمّا في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، فبلغ هذا المعدّل حدود الـ 4.4%.

أمّا بالنسبة للعام الحالي، توقع التقرير أن يسجل النمو الاقتصادي نسبة 2.8% في الولايات المتحدة، و0.8% في منطقة اليورو، و1.1% في المملكة المتحدة، و0.3% في اليابان، و4.2% في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية.

لا توقّعات بالنسبة للبنان
محلياً، قدّر صندوق النقد الدولي انكماش الاقتصاد اللبناني بنسبة 0.7% في عام 2023، بعد معدلات نمو بلغت 1.0% في عام 2022، و2.0% في عام 2021، وانكماش حاد بنسبة 24.6% في عام 2020. غير أنّ الصندوق لم يقدّم أي تقديرات للنمو بعد العام 2023، بما في ذلك العام 2024 الراهن، بسبب “الدرجة العالية من عدم اليقين”، التي تحيط بآفاق الاقتصاد اللبناني. وبهذا المعنى، رأى الصندوق أن تطوّر الأوضاع الأمنيّة بات يشكّل تحديًا كبيرًا، بما يحول دون تقديم أي توقّعات بالنسبة لمستوى الناتج المحلّي في نهاية العام الحالي.

من ناحية أخرى، أشار الصندوق إلى تقلّب معدلات التضخم في لبنان، التي وصلت إلى حدود 221.3% عام 2023، مقارنةً بـ 171.2% عام 2022، و154.8%، عام 2021، و84.9% عام 2020. وذكر التقرير أن نسبة العجز في الحساب الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي قد استقرت عند 23.5% في عام 2023، مقابل 27.7% في عام 2022، و18.1% في عام 2021، و15.8% في عام 2020.

مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي جهاد أزعور، برّر صعوبة توقّع المنحنى الذي سيأخذه الاقتصاد اللبناني بالإشارة إلى وجود دمار كبير في البنية التحتيّة، وأضرار كبيرة جدًا لحقت بالمناطق الزراعيّة جنوب البلاد، بالإضافة إلى تعطّل النشاط الاقتصادي. ورأى أزعور أنّ الواقع الراهن يفرض دعوة المجتمع الدولي وأصدقاء لبنان إلى تقديم هبات، لتمكين البلاد من تجاوز الأضرار المباشرة للحرب.

في النتيجة، غاب لبنان عن أي مناقشات جديّة، تتصل بأزمته الماليّة أو مستقبل البلاد الاقتصادي، كما غابت الدولة نفسها عن التعامل مع المناقشات المتعلّقة بأثر التحوّلات الاقتصاديّة العالميّة. وهذا الغياب كان مفهومًا هذه المرّة، بحكم الحرب التي أرخت بظلالها على المشهد في لبنان، والتي طغت على أي اهتمام رسمي أو شعبي آخر. لكنّ عزلة لبنان الاقتصاديّة عن العالم، لم تبدأ مع هذه الحرب كما هو معلوم، بل بدأت أساسًا بالأزمة الماليّة المستمرّة منذ أواخر العام 2019، والتي عطبت النظام المالي المحلّي لأكثر من خمس سنوات.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةاستهلاك النرجيلة ارتفع 10% خلال شهر… اللبنانيون يائسون
المقالة القادمة“سيتي غروب” الأميركي ينقل موظفين لتركيا: لبنان لن يتأثر