اجتماعات الربيع: المطلوب من لبنان أكثر

تستمرّ في واشنطن فعاليّات اجتماعات الربيع، التي ينظّمها صندوق النقد والبنك الدولي، بمشاركة حكّام مصارف مركزيّة وقيادات سياسيّة وماليّة، من أكثر من مئة دولة. مشاركة لبنان هذا العام كانت مختلفة عن مشاركات الوفود اللبنانيّة خلال السنوات الماضية. إذ من الناحية الشكليّة على الأقل، مثّل لبنان وفد رسمي منسَّق يضم 16 مسؤولاً مالياً واقتصادياً وتقنياً، بمعزل عن التناقضات أو اختلاف وجهات النظر داخل هذا الوفد. وهذا ما يمثّل اختلافًا ملحوظًا مقارنة بمشاركات السنوات السابقة، التي اتّسمت بتعدّد الوفود المتنافرة وتضارب الفعاليّات التي شاركت فيها، واقتصار هذه الأنشطة على الخطابات الاستعراضيّة أو الفلكلوريّة الطابع. وبطبيعة الحال، يمكن القول إن التطوّرات السياسيّة لعبت دورًا أساسيًّا في إضفاء الحد الأدنى من التنسيق في مشاركة الوفد اللبناني.
التطوّر الجديد الآخر هذا العام، تمثل في امتلاك الوفد اللبناني إشارات إيجابيّة يمكن استعراضها أمام المجتمع الدولي، لجهة بدء تحرّك بعض مسارات الحل المالي في لبنان. ومنها على سبيل المثال إقرار الحكومة واللجان النيابيّة المشتركة لمشروع قانون رفع السريّة المصرفيّة، بانتظار المصادقة عليه في الهيئة العامّة للمجلس النيابي اليوم الخميس. إضافة إلى صياغة الحكومة مشروع قانون إصلاح وضع المصارف، بانتظار بدء مناقشته في اللجان النيابيّة قريبًا. مع الإشارة إلى أنّ إقرار هذين القانونين، إلى جانب قانون الانتظام المالي الذي يُفترض أن تناقشه الحكومة قريبًا، يشكّل أبرز الشروط التي ينتظرها صندوق النقد من لبنان، قبل المضي قدمًا نحو الاتفاق التمويلي النهائي.

خطابات إيجابيّة
الأكيد، بحسب مصادر متابعة لنشاط الوفد اللبناني، أن الجزء الجدّي من المناقشات جرى أو سيجري خلف الكواليس، مع مسؤولي المؤسسات الدوليّة (خصوصًا صندوق النقد والبنك الدولي) والمسؤولين الأجانب ومجموعات الضغط المؤثّرة في الوضع اللبناني. غير أنّ الخطابات الرسميّة، وما حملته من أولويّات وإشارات، أعطت انطباعًا بخصوص توجهات وهواجس كل من وجوه الوفد اللبناني.

هكذا برزت مثلًا كلمة حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، بعد كل اللبس الذي أحاط بمواقفه السابقة –قبل تعيينه- تجاه الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ونطاق هذا الاتفاق. إذ من المعلوم أن تعيين سعيد أثار بعض الهواجس لدى كثير من المراقبين، محليًا ودوليًا، بعدما تسرّبت إلى وسائل الإعلام، آراء سابقة أدلى بها أمام موفدين دوليين، توحي بعدم رغبته بتوسيع نطاق الاتفاق مع صندوق النقد، وباتجاهه نحو حلول تركّز على استخدام الأصول العامّة لمعالجة الأزمة الراهنة. من هذه الزاوية بالذات، كانت لكلمة سعيد في اجتماعات الربيع حساسيّة خاصّة.

كلمة سعيد في اجتماعات الربيع حملت عبارتين لا يمكن تجاهلهما: تمسّك مصرف لبنان بأولويّة الحفاظ على أصول الدولة، واستهدافه التوصل إلى اتفاق “موثوق وشامل” مع صندوق النقد الدولي. وعبارة “شامل”، تعني تطرّق الاتفاق إلى مختلف جوانب الأزمة الماليّة والنقديّة القائمة: من إعادة هيكلة الديون العامّة، إلى إصلاح أوضاع المصارف وإعادة هيكلتها، وصولًا إلى السياسة الضريبيّة وأدوات تحقيق الاستقرار النقدي. وهذا ما يتعارض مع التسريبات الإعلاميّة السابقة، التي أوحت بأن سعيد يرغب في تضييق نطاق الاتفاق مع الصندوق، ليقتصر على جوانب متعلّقة بالماليّة العامّة حصرًا، من دون إخضاع عمليّة إعادة هيكلة المصارف والديون العامّة لشروط هذا الاتفاق.

في كواليس نقاشات واشنطن، ثمّة من يرى أنّ مواقف سعيد الأخيرة جاءت من باب مراعاة الضغط الخارجي، على هامش زيارة يفترض أن يكون هدفها طمأنة الخارج بالدرجة الأولى. وثمّة من يرى أنّها أتت استمالاً لخطاب التسلّم والتسليم، الذي حمل بدوره إشارات مطمئنة أيضًا، ما يوحي أن سعيد جنح نحو عقلانيّة مستجدة بعد التعيين وتلمّس الواقع من داخل المصرف. جديّة سعيد في تنفيذ هذا النوع من الخطابات الإيجابيّة، سيؤكّده أو تنفيه تطوّرات الأسابيع المقبلة، وخصوصًا عند تحضير المسودّة الأولى من قانون الانتظام المالي الذي يُناقش حاليًا بين وزارة الماليّة ومصرف لبنان.

أولويّات الصندوق
لا يزال كبار المسؤولين في صندوق النقد يظهرون نبرة متحفظة عند الحديث عن الوضع اللبناني، ولو أنّهم وجدوا في خطوات الحكومة الأخيرة ما يستحق الإشادة، لناحية التقدّم –وللمرّة الأولى- في صياغة مشروع قانون واقعي لإصلاح أوضاع المصارف (بمعزل عن مصير هذا المشروع في مجلس النوّاب). كما مثّل إقرار مشروع قانون رفع السريّة المصرفيّة خطوة متقدمة من جانب اللجان المشتركة، بعد كل التمنّع الذي فخّخ القانون السابق الذي جرى إقراره عام 2021. لكن رغم جميع هذه الخطوات، لا يزال الصندوق يرى لبنان بعيدًا عن الاتفاق النهائي، الذي يستلزم ما هو أكثر من ذلك.

الامتحان المقبل في المجلس النيابي، سيكون عند مناقشة وإقرار قانون إصلاح أوضاع المصارف، الذي يحمل الجوانب الأكثر حساسيّة، المرتبطة بصلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفيّة العليا. أمّا التحدّي الكبير في الحكومة، فسيكون عند مناقشة قانون الانتظام المالي، الذي سيحدد معايير وأسس توزيع الخسائر المتراكمة حاليًا في القطاع المصرفي. وهناك، ستكمن الشياطين في تفاصيل القانونين، حيث تتسم جميع هذه التفاصيل بتشعّبات قانونيّة وتقنيّة معقّدة، يُخشى التلاعب بها.

أمّا الأهم، فهو ما نقلته المصادر المتابعة لحركة الوفد اللبناني في واشنطن، لجهة تأكيد جميع الدول المانحة أن مؤتمر إعادة الإعمار سيكون مرتبطاً بمستقبل هذه المسارات الإصلاحيّة، التي يفترض استكمالها على وقع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. فتقديرات هذه الدول تشير إلى أنّ إدارة أموال إعادة الإعمار داخل النظام المالي، ومن ثم إدارة عمليّة إعادة الإعمار نفسها، تحتاج إلى الحد الأدنى من الإصلاحات الماليّة والإداريّة، التي تكفل فعاليّة استخدام المساعدات وحسن استعمالها. وهذا الربط لا يأتي في إطار الابتزاز، بقدر ما يأتي من باب التفهّم الواقعي لأهميّة الحوكمة الجيّدة في إنجاز عمليّة ضخمة بهذا الحجم. لهذا الربط استثناءات محدودة طبعًا، ومنها اتفاقيّة القرض الذي سيمنحه البنك الدولي للبنان بقيمة 250 مليون دولار، والتي سيتم توقيعها اليوم الخميس.

في النتيجة، لن يخرج لبنان من اجتماعات الربيع بأي تطوّر كبير على مستوى الاتفاق المنتظر مع صندوق النقد، والذي سيبقى مرتبطاً بتنفيذ المسارات الثلاثة: رفع السريّة المصرفيّة، إصلاح أوضاع المصارف، وتوزيع الخسائر/الفجوة (قانون الانتظام المالي). غير أنّ هذه الاجتماعات ستمثّل نافذة للوفد اللبناني، لعرض ما تحقّق حتى هذه اللحظة على مستوى الإصلاحات الماليّة والاقتصاديّة. ورغم محدوديّة ما تحقّق، قياسًا بالمطلوب للخروج من الأزمة، أو لتوقيع الاتفاق النهائي مع صندوق النقد، قد يكون من المنصف القول إن هناك تقدمًا ما جرى إحرازه على مستوى العمل الحكومي هذا العام، مقارنة بالسنوات السابقة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةقريباً فئات نقدية جديدة: 500 ألف ومليون ليرة
المقالة القادمةطباعة فئات نقدية جديدة… هل ستؤثر على قيمة الليرة؟