كما هي العادة، حجّ كبار المسؤولين الماليين وحكّام المصارف المركزيّة والسياسيين والأكاديميين، مع ممثلي القطاعات الخاصّة والمجتمع المدني، إلى واشنطن، للمشاركة في اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. إلى هناك، حمل كلّ من هؤلاء همومه وهواجسه وتطلّعاته، إزاء تقلّب فصول الاقتصاد العالمي.
هناك، يمكن أن تسمع بأحدث التحديات والتحوّلات التي تعصف باقتصادات العالم: من تقلّب المناخ، ومديونيّة الدول الناميّة، إلى نتائج سياسات التشديد النقدي، والحروب التجاريّة، وتراجع مكانة العولمة الاقتصاديّة كعقيدة ومبدأ، وما ينتج عن ذلك من “تكسير” لسلاسل توريد التجاريّة العالميّة.
هناك، تدرك كم تسارعت الأحداث التي يحار صنّاع السياسات في كيفيّة التعامل معها. العالم يمشي هناك.
لبنان ووفوده خارج هموم العالم
على هامش تلك الاجتماعات، جاءت مشاركة الوفود اللبنانيّة الهزيلة. ثمّة شخصيّات آتية من خارج هذا الزمن، توقّفت الحياة عندها قبل أربع سنوات ونيّف. فلا هي معنيّة بتقلّبات الفوائد، ولا تدفّقات الرساميل، ولا معدّلات الاستثمار الأجنبي. هي لا تملك نظامًا ماليًا يعمل حتّى، بالمعنى الحديث والعصري للكلمة.
أكثر ما تتطلّع إليه، هو أن يعفيها القدر من بعض تداعيات أحداث العالم الخارجي، كارتفاع كلفة شحن أو أسعار السلع المستوردة. حتّى في صفوف الدول الفقيرة أو المتوسّطة الدخل، يصعب أن تعثر على ندٍّ للبنان، بوصفه دولة لم تفلح في إعادة هيكلة ديونها بعد أكثر من أربع سنوات من التعثّر، فباتت خارج أسواق الدين والاستثمار.. وخارج هموم العالم.
لم تكمن مشكلة الوفود اللبنانيّة في كونها آتية من جزيرة بائسة ماليًا واقتصاديًا، بل ثمّة ما هو أكثر إثارة للحزن (والشفقة!) على مصير هذا البلد المتعثّر. جاءت الوفود الرسميّة مشتّتة ومتفرّقة، لا تملك شيئًا لتخبره لهذا العالم، بعكس جميع الوفود الأخرى. كان بإمكانك مثلًا، أن تستخلص من وفد كلّ دولة أو مؤسسة أو قطاع خاص رسالة ما، أو مجموعة رسائل. هي “القصّة” التي يأتي كل مسؤول ليخبرها لنظرائه.
وحدها وفود لبنان، الآتية من المكان الأكثر حاجة للدعم الدولي، لا تعلم ماذا تريد. لا تحمل أصلًا أي جديد لتقوله، غير ما قالته على مرّ السنوات الماضية. وفي واقع الأمر، لم تخرج هذه الوفود بأكثر من بعض الصور التذكاريّة والمقابلات الإعلاميّة، وبعض اجتماعات العلاقات العامّة.
قاطرة الوفود إلى واشنطن، شملت رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان، وحاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري، ووزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام، بالإضافة إلى نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، ووفد نيابي معارض ضمّ النوّاب ميشال معوّض ومارك ضو وآخرين.
تلك القاطرة، عكست وضع البلاد الصعب: كثرة الرؤوس، وتعارض المصالح، والسخاء في الشعارات مقابل ضحالة النتائج. ذهبوا فرادى متفرّقين، وحكمت النميمة -فيما بينهم- اجتماعاتهم مع المسؤولين الدوليين، إلى حد “مثير للشفقة” كما وصف الأمر أحد الخبراء الأجانب الذين تابعوا اجتماعات واشنطن.
أمين سلام يشكو نفسه؟
على هامش الاجتماعات، كان وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام يشكو إلى العالم: لقد نفد صبر صندوق النقد، بعدما تأخّرت السلطات اللبنانيّة (؟) في إقرار الإصلاحات المطلوبة. وإذا لم نتحرّك، فإن الصندوق سيسحب هذه الفرصة من لبنان.
إليكم وزير الاقتصاد، الذي خاطب رئيس الحكومة بمراسلة مكتوبة منذ نحو ثلاثة أشهر، ليركل خطّة إعادة هيكلة المصارف المتفق عليها مع صندوق النقد، والمُعدّة من قبل اللجنة التي كان عضوًا فيها. وبعدما اكتفى بدور المتفرّج في لجنة، وبمجرّد طرح الخطّة أمام مجلس الوزراء، بات سلام يطالب المجلس بتبنّي طرح يحمّل ثلثي خسائر المصارف للأموال العموميّة اللبنانيّة.
وسلام يعلم حتمًا أن ما يطرحه كفيل بإطاحة أي تفاهم محتمل أو قائم مع صندوق النقد، أو مع الدائنين الأجانب، أو مع أي جهة دوليّة أو استثماريّة تملك الحد الأدنى من الخبرة في تمييز الخطط العبثيّة المُعدّة للاستهلاك الشعبوي (أو العناوين الجوفاء والفارغة كما وصفها البنك الدولي). ربما لهذه السبب، لم يجرؤ سلام على طرح الفكرة “العبقريّة” خلال المفاوضات مع صندوق النقد، فاختار استعمالها للإطاحة بالتفاهم المبدئي مع الصندوق داخل مجلس الوزراء.
ها هو سلام يشكو أمام المجتمع الدولي تأخّر لبنان في إقرار الإصلاحات، وبالتحديد: تلك التي يطلبها صندوق النقد الدولي! ها هو سلام نفسه يحذّرنا من نفاد صبر الصندوق، ومن سحب الفرصة المتاحة أمام لبنان.
هل يشكو سلام نفسه؟ هل يشتكي أمين سلام المواطن، على أمين سلام وزير الاقتصاد، الذي اكتفى بدور المتفرّج في لجنة التفاوض مع صندوق؟ هل يشتكي على معالي الوزير الذي استفاق على المشاركة في الإطاحة بالتفاهم المبدئي، بعد عقده؟ من هو المسؤول عن خطّة التعافي، يا معالي الوزير؟
في جميع الحالات، صدق أمين سلام في جملة مهمّة قالها: ليس لدى الوفد اللبناني في واشنطن أي جديد ليقدّمه. وهذا القول ينطبق على قائله طبعًا.
كنعان: دعم الاقتصاد الشرعي.. بتحميله خسائر المصارف!
اختار رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان دخول المشهد من زاوية الحديث عن احتمالات إدراج لبنان على اللائحة الرماديّة لمجموعة العمل المالي، في اجتماع خاص مع مساعد وزير الخزانة الأميركية لشؤون مكافحة الإرهاب والجرائم المالية جيسي بيكر. وكان وفد وزارة الخزنة الأميركيّة، الذي ترأسه بيكر نفسه، قد حذّر خلال شهر آذار الماضي من التأخّر في مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بوصفه العامل الأساسي الذي يشجّع على اقتصاد النقد الورقي (الكاش)، والذي يرفع بدوره من مخاطر تبييض الأموال.
في مواجهة أولويّة إعادة الهيكلة، اختار كنعان أن يكون وفيًا للمهمّة التي قام بها -كرئيس للجنة المال والموازنة- منذ العام 2020: طرح البديل عن إعادة الهيكلة التي يطلبها المجتمع الدولي، بتحميل الدولة خسائر القطاع المصرفي. هذه المقاربة التي أطاحت بخطّة لازارد عام 2020، والتي تعرقل اليوم المضي بالتفاهم مع صندوق النقد، كانت موضوع مناشدات كنعان في واشنطن، بهدف.. تعزيز وتقوية الاقتصاد الشرعي!
مجددًا: إليكم رئيس لجنة المال والموازنة، الذي ذهب إلى واشنطن ليطالب المجتمع الدولي بربط خسائر المصارف، المجهولة المصدر حتّى اللحظة، بماليّة الدولة العامّة. مناشدة من هذا النوع، كانت كفيلة ليدرك أي مراقب في واشنطن أن النخبة السياسيّة لا تملك إرادة أو نيّة تنفيذ الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد، لكونها ببساطة عاجزة عن التخلّي عن المصالح الماليّة الراسخة داخل النظام المالي.
منصوري والشامي وتعديلات خطّة التعافي
إذا كان هناك من جديد سمعه اللبنانيون في واشنطن، فهو حديث الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، عن توجه المصرف المركزي لطرح أفكار جديدة تتعلّق بطريقة تقسيم أموال المودعين. ورغم أن منصوري لم يدخل في تفاصيل تلك الفئات، إلا أنّه أوضح أن جزءاً من هذه الفئات -يقصد كبار المودعين- سيُعاملون كمستثمرين، وبطرق ماليّة يفهمونها ويقبلون بها.
تطول لائحة الأسئلة عند سماع هذا التصريح: لماذا لم يطرح المصرف المركزي هذه التصوّرات من ضمن لجنة إعداد خطّة التعافي، والتفاوض مع صندوق النقد، الذي تمثّلت فيها حاكميّة مصرف لبنان؟ ولماذا لم يطرحها في مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي أعدّه مصرف لبنان بالتحديد؟ وما المقصود بمعاملة كبار المودعين كمستثمرين؟ هل هناك ما سيربط حقوقهم بالأصول والأموال العامّة، كما تشتهي جمعيّة المصارف، أو كما تمنّى أمين سلام سرًا في مراسلته، وإبراهيم كنعان علنًا في واشنطن؟
في مقابل هذه الأجواء، وقف نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي –كعادته- وحيدًا في الدفاع الواقعي عن الخطّة المتفق عليها مع صندوق النقد. عاد ليربط بين معايير إعادة الهيكلة، التي شملها مشروع القانون المطروح أمام الحكومة، وطبيعة الخسائر التي تراكمت داخل القطاع. وعاد للتذكير بأن اللجنة الحكوميّة، التي عملت على مشروع القانون، ما زالت تنتظر الملاحظات على الخطّة لدراستها، “على أمل التوصل إلى اتفاق بشأنها في مجلس الوزراء، قبل إرسالها إلى مجلس النواب كمشروع قانون”. انتظار الشامي، والتعديلات التي يعمل عليها مصرف لبنان، هي كل ما يمكن ترقّبه حاليًا لمعرفة مآل الأزمة المصرفيّة في لبنان.