في مطلع شهر تشرين الأوّل الحالي، باشرت المصارف اللبنانيّة تطبيق قرار مصرف لبنان، القاضي بتسديد ثلاث دفعات للمودعين المستفدين من تعاميم السحوبات الصادرة عن المصرف المركزي، بدل الاكتفاء بدفعة شهريّة واحدة كما هي العادة. وكما أشارت “المدن” بعد صدور القرار، نقلًا عن مصادر مصرفيّة، تم اعتماد آليّة تحمّل احتياطات المصرف المركزي كلفة الدفعتين الإضافيّتين، بينما تقاسمت المصارف ومصرف لبنان كلفة الدفعة الأولى الاعتياديّة كما كان الحال دائمًا. وعلى هذا النحو، كان من المتوقّع أن ينعكس هذا الإجراء تلقائيًا على حجم احتياطات المصرف المركزي، خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي، وهذا تحديدًا ما جرى.
تناقص الاحتياطات
وفقًا لميزانيّة مصرف لبنان، للفترة المنتهية في منتصف تشرين الأوّل، انخفضت قيمة احتياطات المصرف المركزي السائلة من 10.85 مليار دولار في بداية الشهر، إلى نحو 10.5 مليار دولار في منتصفه. وبذلك، يكون مصرف لبنان قد أنفق ما يقارب الـ 343.65 مليار دولار خلال فترة أسبوعين، نتيجة تحمّله كلفة السحوبات الإضافيّة. ومن حيث النسبة، يمكن القول أن حجم الاحتياطات الإجمالي تراجع بنحو 3.1% خلال تلك الفترة.
وبهذا الشكل، تكون التطوّرات الأخيرة قد عكست مسار تزايد الاحتياطات، الذي سار عليه مصرف لبنان منذ أشهر، بفعل قدرته على شراء الدولار من السوق الموازية. فخلال النصف الثاني من شهر أيلول مثلًا، كانت احتياطات مصرف لبنان قد ارتفعت بقيمة 59 مليون دولار خلال فترة لم تتجاوز الأسبوعين. وعلى مدى الفترة الممتدة بين منتصف شباط ونهاية أيلول، كان المصرف المركزي قد تمكّن -وبفعل الزيادات النصف شهريّة التدريجيّة- من زيادة احتياطاته بحوالي الـ 1.19 مليار دولار. وهنا يمكن الإشارة إلى أنّ المبلغ الذي أنفقه مصرف لبنان خلال النصف الأوّل من الشهر الحالي يوازي نحو 29% من إجمالي الزيادة في الاحتياطات، التي حققها سابقًا مصرف لبنان منذ منتصف شهر شباط الماضي.
وعلى العكس تمامًا، من ناحية قيمة احتياطات الذهب، سجّل المصرف المركزي زيادة في قيمة هذا البند، من 24.46 مليار دولار أميركي في بداية شهر تشرين الأوّل، إلى 24.47 مليار دولار أميركي في منتصف الشهر نفسه. وبذلك تكون قيمة هذه الاحتياطات قد زادت بقيمة ضئيلة تقارب الـ 5.8 مليون دولار، خلال هذه الفترة، جرّاء ارتفاع أسعار الذهب العالميّة. ومن المعلوم أنّ المصرف المركزي يعيد تقييم احتياطات الذهب الموجودة لديه كل 15 يومًا، في الميزانيّة النصف شهريّة التي يعرضها، وفقًا لأسعار الذهب الرائجة في الأسواق العالميّة.
مراجعة بنود المطلوبات في الميزانيّة، تؤكّد التحليل الذي أشرنا إليه بالنسبة إلى أسباب تناقص الاحتياطات. فقيمة ودائع القطاع المالي -ومنه المصارف- لدى مصرف لبنان تراجعت بنحو 434.36 مليون دولار، خلال النصف الأوّل من تشرين الأوّل. وبهذا يكون من الواضح أنّ المصارف استعملت أرصدتها الموجودة والعالقة لدى مصرف لبنان، لسحب مبالغ نقديّة بالدولار الأميركي من احتياطات المصرف، وتمويل السحوبات الإضافيّة والاستثنائيّة. أي بمعنى آخر، قام المصرف المركزي بتخفيض قيمة ودائع المصارف لديه، بما يوازي السيولة التي وفّرها للمصارف، لتمويل سحوبات المودعين الاستثنائيّة، وفقًا للآليّة المتفق عليها بين الطرفين.
حسابات الدولة والكتلة النقديّة
من جهة أخرى، يتضح أيضًا أن ودائع القطاع العام -أو حسابات الدولة- لدى مصرف لبنان قد انخفضت بقيمة تقارب الـ 60.98 مليون دولار، خلال النصف الثاني من تشرين الأوّل، لتبلغ حدود الـ 5.91 مليار دولار في منتصف الشهر. ومرّة جديدة، يكون المصرف المركزي قد اضطرّ خلال هذه الفترة للتخلّي عن السياسة المعتمدة منذ أشهر، القائمة على مراكمة الإيرادات العامّة في مصرف لبنان، في مقابل اعتماد سياسة تقشّفية صارمة على مستوى الدولة اللبنانيّة. من المهم التذكير هنا بأن بند ودائع القطاع العام كان قد سجّل ارتفاعًا بقيمة 197.68 مليون دولار خلال النصف الثاني من شهر أيلول الماضي، وبنحو 1.66 مليار دولار منذ منتصف شهر شباط الماضي.
في الواقع، من المرجّح أن يكون مصرف لبنان قد اضطرّ للسماح بإنفاق جزء من أموال الدولة اللبنانيّة المتراكمة لديه، في ضوء بعد النفقات الطارئة، التي استجدّت الحاجة إليها خلال الحرب. لكنّ هذا التطوّر لا يعني بالضرورة تخلّي وزارة الماليّة ومصرف لبنان عن سياسة التقشّف المتبعة حتّى الآن، إذ ستؤكّد ذلك أو تنفيه أرقام الفترة المقبلة.
في مقابل هذا التطوّر، ظلّ مصرف لبنان قادرًا على ضبط حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، والتي لم ترتفع قيمتها، بل تراجعت من 53.46 ترليون ليرة لبنانيّة إلى 52.04 ترليون ليرة، بين بداية تشرين الأوّل ومنتصف الشهر. وبطبيعة الحال، تكتسب الأرقام أهميّة خاصّة عند مقاربة مسألة الاستقرار النقدي خلال الحرب. إذ أنّ الحد من حجم السيولة المتداولة بالليرة سيعني تلقائيًا تحقيق استقرار أكبر على مستوى سعر صرف الليرة، بالنظر إلى محدوديّة الأموال المتوفّرة بالعملة المحليّة، والتي يمكن أن تتحوّل في أي لحظة إلى طلب على العملة الصعبة في السوق الموازية.
في النتيجة، من الواضح أنّ آثار الحرب وتداعيات توسّعها انعكست هذه المرّة على ميزانيّة مصرف لبنان، وخصوصًا على مستوى حجم الاحتياطات وقيمة ودائع القطاع العام. ومع ذلك، من الأكيد أنّ هذه التطوّرات لن تشكّل في الوقت الراهن مصدرًا للقلق بالنسبة للتوازنات الماليّة والنقديّة، طالما أن قرار السحوبات كان استثنائيًا ولمرّة واحدة.