بغياب الخطّة الماليّة الشاملة، وبغياب رؤية متقنة لتوحيد وضبط سعر الصرف، لا يمكن توقّع أي تطوّر إيجابي في أرقام الميزانيّة النصف الشهريّة التي ينشرها مصرف لبنان. ففي بداية ومنتصف كل شهر، بات من المألوف أن تعكس هذه الميزانيّة النصف شهريّة الاستنزاف المستمر في احتياطات العملة الأجنبيّة، والتزايد غير المفهوم في البند الذي يعكس خسائر مصرف لبنان المتراكمة، بالإضافة إلى التقلّبات السريعة في حجم الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان.
تناقص الاحتياطات
أرقام الميزانيّة كما في نهاية شهر حزيران تُظهر تناقص احتياطات العملة الصعبة المتبقية إلى حدود ال11.14 مليار دولار، بعد أن بلغت حدود ال11.31 مليار في منتصف شهر حزيران. وبصورة أوضح، يمكن القول أن مصرف لبنان خسر من احتياطاته مبلغ تُقارب قيمته ال171 مليون دولار، خلال النصف الثاني من شهر حزيران وحده.
في كل الحالات، من المعلوم أنّ هذا النوع من الخسارات بات يعكس بشكل أساسي المبالغ التي يضخها مصرف لبنان في السوق من خلال منصّة صيرفة، لتمويل استيراد بعض السلع أو لجم سعر صرف الدولار مقابل الليرة. كما يُضاف إلى أسباب تناقص قيمة الاحتياطات خسارة أخرى أقل حجمًا، ناتجة عن انخفاض سعر صرف اليورو مقابل الدولار، لكون محفظة الاحتياطات تشمل توظيفات محدودة القيمة باليورو (تتبدّل قيمتها في الميزانيّة مع تبدّل قيمة اليورو مقابل الدولار).
تجدر الإشارة إلى أنّ قيمة احتياطات مصرف لبنان في بداية شهر حزيران كانت قد بلغت نحو 11.82 مليار دولار، وهو ما يجعل القيمة التي خسرها المصرف المركزي من الاحتياطات خلال كل شهر حزيران نحو 680 مليون دولار أميركي. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار وجود احتياطات قاربت قيمتها ال13.63 مليار دولار في بداية السنة الحاليّة، يصبح من الواضح أن حجم الاستنزاف الحاصل من الاحتياطات بلغ حدود ال2.49 مليار دولار منذ بداية هذا العام، أي خلال فترة لم تتجاوز حدود الستّة أشهر فقط.
المثير للاهتمام هنا، هو أن استنزاف الاحتياطات بهذا الشكل سيكون قد كبّد لبنان –إذا استمر بهذه الوتيرة- نحو خمسة مليارات دولار بحلول نهاية العام، في حين أنّ كل ما سيحصل عليه لبنان في برنامج قرض صندوق النقد –إذا تم إنجاز الاتفاق النهائي- لن يتخطّى ثلاثة مليار دولار. مع العلم أن حجم الاحتياطات التي يتم استنزافها بهذه الوتيرة يُقارب ربع الناتج المحلّي الإجمالي، أي أنّ ربع حجم الاقتصاد المحلّي يتم تمويله بتدخّل المصرف المركزي.
مخزون الذهب
على صعيد مخزون الذهب، المسجّل في ميزانيّة المصرف المركزي، سجّل هذا البند انخفاضًا لتوازي قيمته اليوم نحو 16.73 مليار دولار، بعد أن كانت قيمته توازي نحو 17.08 مليار دولار في بداية شهر حزيران، وهو ما عكس انخفاض بنحو 356 مليون دولار خلال شهر واحد. مع الإشارة إلى أنّ هذا الانخفاض أتى مدفوعًا بانخفاض قيمة الذهب عالميًّا خلال هذا الشهر، بالتوازي مع ارتفاع الفوائد في الولايات المتحدة. وهذا النوع من إعادة تقييم بند الذهب في الميزانيّة، يجريه المصرف المركزي بشكل تلقائي كل 15 يومًا في ميزانيّته النصف شهريّة، بحسب ما يطرأ من تغيّرات على أسعار المعدن الأصفر في الأسواق الدوليّة.
الخسائر المتراكمة في الميزانيّة
بالنسبة إلى الخسائر المتراكمة في الميزانيّة، تحت مسمّى “الموجودات الأخرى”، سجّل هذا البند ارتفاعًا بقيمة 447 مليون دولار في النصف الثاني من حزيران، ما رفع قيمته إلى نحو 66.8 مليار دولار. وهذا البند، يستعمله المصرف المركزي –باجتهاد شخصي من الحاكم- لإخفاء ما يلحق بالمصرف من خسائر، عبر تسجيل موجودات وهميّة تحت مسمّى “الموجودات الأخرى”، في مقابل الموجودات الفعليّة التي يخسرها المصرف. وبهذه الطريقة، تفادى سلامة منذ سنوات طويلة تسجيل هذه الخسائر بشكل واضح وصريح في الميزانيّة، وتنزيل قيمتها من إجمالي موجودات الميزانيّة. وهذا تحديدًا ما أدّى اليوم إلى تراكم الفجوة الموجودة في حسابات مصرف لبنان، والتي تسعى مختلف الطروحات والخطط الماليّة إلى التعامل معها.
الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة
بالنسبة إلى قيمة الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان، بالليرة اللبنانيّة، عاد هذا البند للارتفاع بنحو 448 مليار ليرة لبنانيّة، خلال النصف الثاني من شهر حزيران، بعد أن تمكّن المصرف من امتصاص نحو 5,081 مليار ليرة لبنانيّة من النقد الورقي بالعملة المحليّة في النصف الأوّل من الشهر. لكن في جميع الحالات، ما زالت قيمة الكتلة النقديّة المتداولة خارج مصرف لبنان اليوم أقل بنسبة 15% من قيمتها في بداية هذا العام، وهو ما يعكس أثر عمليّات امتصاص النقد المتداول بالليرة التي قام بها المصرف المركزي منذ بداية هذا العام.
في خلاصة الأمر، بات من الواضح أن مشهد الميزانيّة يزداد سوداويّة كل نصف شهر، مع كل انخفاض إضافي في قيمة الموجودات الفعليّة السائلة، أو القابلة للتسييل، باستثناء الذهب الذي لا تتغيّر قيمة بنده إلّا وفقًا لتغيّر أسعار السوق العالمي. ومع كل انخفاض في قيمة الاحتياطات، يتزايد الفارق بين التزامات المصرف المركزي وقيمة موجودات السائلة، ما يفاقم من حجم الخسائر المتراكمة، ومن كلفة التعامل معها خلال المرحلة المقبلة.