ادعاء “المركزي” على سلامة: خطوة متأخّرة.. بالغة الأهمية

أخيرًا، اتخذ مصرف لبنان قرار الادعاء على حاكمه السابق رياض سلامة، أمام المحاكم الفرنسيّة، كما أعلن المحامي ويليام بوردون في مقابلة مع صحافية “لوريان لوجور” هذا الأسبوع. القرار جاء متأخّرًا، بعد نحو سنة من مغادرة الحاكم السابق رياض سلامة لمنصبه في المصرف، وتولّي “القيادة الجديدة” هناك سدّة المسؤوليّة. وهذا ما يطرح تلقائيًا السؤال عن سر توقيت الخطوة الآن، وسبب اتخاذها في هذه المرحلة أمام محاكم باريس. ومع ذلك، يبقى من الضروري الإشارة إلى أهميّة هذه الخطوة ودلالاتها، على مستوى الملاحقات الجارية بحق سلامة والمجموعة التي عاونته في العمليّات المشبوهة.

مع الإشارة إلى أنّ هذه التطوّرات تُعنى بالدرجة الأولى بملف شركة “فوري”، الذي يجري التحقيق بشأنه في النيابات العامّة لدى عدّة دول أوروبيّة. ويرتبط الملف بأكثر من 330 مليون دولار أميركي من العمولات التي تقاضتها الشركة المسجّلة بإسم شقيق الحاكم السابق، رجا سلامة، من أموال مصرف لبنان العامّة، بموجب عقد وهمي، ولقاء خدمات مزعومة لم يتم تقديمها بالفعل. وكانت التحقيقات الأوروبيّة -وخصوصًا الفرنسيّة- قد توسّعت مؤخّرًا لتشمل العديد من الشركات الأخرى التي قامت بعمليّات مشابهة، مثل شركة “أوبتيموم”.

أهميّة الخطوة وأبعادها
ما قام به المصرف المركزي ببساطة، هو الدخول كطرف مدني في هذه القضيّة، أي كمدّعٍ على الحاكم السابق رياض سلامة. هذا القرار، سيعني وضع المصرف في موقع المُطالب بالأموال المشتبه باختلاسها، والمحجوزة حاليًا من قبل المحاكم الأوروبيّة في أكثر من بلد. بهذا المعنى، أهميّة الخطوة الأخيرة تكمن في كونها تسمح بحفظ حق المصرف المركزي في هذه الأموال، بعد صدور الأحكام النهائيّة على سلامة ومجموعته في المستقبل. والتغاضي عن القيام بهذه الخطوة كان سيعني منع المصرف المركزي من المطالبة بالأموال لاحقًا، بعد صدور الأحكام، طالما أنّ المصرف تلكّأ عن اعتبار نفسه “طرفًا مدنيًا” في الملف قبل صدور الأحكام. هكذا، يمكن القول أنّ النتيجة الأولى هنا لخطوة مصرف لبنان هي “حفظ حقّه” في القضيّة.

النتيجة الثانية التي ستترتّب على هذه الخطوة، هي إلزام المصرف المركزي بتأمين أي معلومات سيطلبها القضاء الفرنسي في المستقبل. إذ كما هو معلوم، ارتكزت معظم معطيات الملف حتّى الآن على حركة الحسابات وعمليّات الشراء العقاريّة في أوروبا، أو حركة حسابات رجا سلامة في المصارف التجاريّة اللبنانيّة. أمّا دخول مصرف لبنان كمدّع في الملف، فسيعني إلزامه بتسليم كنز من المعلومات، وخصوصًا تلك التي تتصل بحركة الحسابات التي خرجت منها العمولات. هذا التطوّر بالتحديد، هو ما قد يفسّر تأخّر المصرف المركزي في اتخاذ هذا القرار.

في الوقت نفسه، تشير خطوة مصرف لبنان الأخيرة إلى أنّ التحقيقات الأوروبيّة وصلت بالفعل إلى مراحل متقدّمة، وإلى حدٍّ يصعب معه وقوف مصرف لبنان في موقع المتفرّج على التحقيقات. وهذا يحيلنا إلى السؤال حول سرّ توقيت الخطوة اليوم.

سرّ توقيت خطوة مصرف لبنان
على مدى سنة من الزمن، تردّدت قيادة مصرف لبنان في اتخاذ قرار الادعاء على الحاكم السابق رياض سلامة، أمام المحاكم اللبنانيّة والأوروبيّة. المصادر الحقوقيّة المتابعة للملف، تشير إلى أنّ صدور الأحكام على رياض سلامة ومعاونيه في أوروبا، قبل اتخاذ المصرف المركزي قرار الادعاء عليهم، كان سيعني تبديد حق المصرف في الأموال المشتبه في اختلاسها. وهذا ما سيحمّل قيادة مصرف لبنان مسؤوليّة التواطؤ المتعمّد لهدر الأموال العامّة، لمجرّد تفادي تقديم المعلومات الموجودة لدى مصرف لبنان. بهذا المعنى، كان على قيادة مصرف لبنان اتخاذ قرار الدخول كطرف مدني في الملف، مع “نضوج” التحقيقات واكتمال صورة العمليّات التي قام بها سلامة وشركائه.

على هذا النحو، يمكن القول أن الخطوة جاءت من باب الضرورة، أو عملًا بمقولة “مكرهٌ آخاك لا بطل” كما يقول المثل الشائع. ولعلّ الدليل الأبرز على ذلك يتمثّل في عدم اتخاذ المصرف المركزي اجراء مماثلاً في لبنان، حيث يراوح الملف مكانه جرّاء تملّص القضاة من اتخاذ القرارات الحسّاسة بشأنه، ولجوء الحاكم السابق رياض سلامة إلى دعاوى مخاصمة الدولة لفرملة اتخاذ هذه القرارات.

وهكذا، كان من شأن دخول مصرف لبنان كمدعّي في هذه القضيّة أن يزيد من الضغط باتجاه تحريك الملف، طالما أنّ المصرف بات يعتبر نفسه صاحب حق في أموال الحاكم السابق المشتبه باختلاسها. ولكنّ ذلك لم يحصل حتّى اللحظة.

خطوات إضافيّة مطلوبة من مصرف لبنان
بهذا الشكل، تتضح أولى الخطوات الإضافيّة التي يفترض أن يتخذها مصرف لبنان، والتي لم يتم اتخاذها حتّى هذه اللحظة، أي دخوله كمدّع ضد رياض سلامة أمام المحاكم اللبنانيّة. وهذه الادعاء لا يفترض أن يشمل ملف شركة فوري وحدها، بل يجب أن يطال سائر الفضائح التي تورّط بها الحاكم السابق وشركائه، ومنها شركة أوبتيموم التي تفوق قيمة العمولات المرتبطة بها حدود 8 مليار دولار. ومن الطبيعي أن يكون المصرف المركزي نفسه الأقدر على جمع المعطيات المرتبطة بهذه الفضائح، عبر تتبّع حسابات المصرف نفسه، ومن ثم تقديم المعطيات الكاملة للقضاء اللبناني.

الخطوة الثانية المطلوبة في هذا الإطار، هو اتخاذ المصرف موقع الادعاء أمام السلطات القضائيّة الأوروبيّة الأخرى، التي قامت أيضًا باحتجاز أموال وعقارات سلامة والحلقة المحيطة به. وهذا الادعاء يكتسب أهميّة خاصّة في سويسرا، حيث يقيّد القانون قدرة الجمعيّات غير الحكوميّة على الادعاء والتحرّك، وهو ما يفترض تدخّل الطرف المتضرّر بشكل مباشر، أي مصرف لبنان صاحب الأموال المشتبه باختلاسها.

في جميع الحالات، يبقى من المهم الإشارة إلى أنّ التطوّر الأخير يدل على جديّة الملاحقات الجارية والمستمرّة بحق الحاكم السابق، بعدما حاولت بعض أوساطه تسخيف هذه الملاحقات خلال الشهر الماضي، استنادًا إلى قرار إلغاء مذكرة التوقيف الألمانيّة الصادرة بحق سلامة. ببساطة، لم يكن مصرف لبنان ليضطر إلى القيام بهذه الخطوة، لولا ترقّبه الحكم بحق سلامة والأموال والأصول المحتجزة في أوروبا.

 

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةالتوسع الصناعي السريع في الصين… هل هو ميزة نسبية أم سياسات مشوهة؟
المقالة القادمةمصرف لبنان والادعاء أوروبياً على سلامة: الأسرار الرديئة ستنكشف