غالباً ما تتعامل السلطة السياسية مع المناصب العليا في الدولة على أنها مغانم طائفية من دون الإلتفات إلى كفاءة أصحابها وخبراتهم المهنية والعلمية التي يمكن الإستفادة منها. وهذا حال عشرات المناصب العليا في الدولة، ومنها نواب حاكم مصرف لبنان، خصوصاً النائب الأول الذي يعول عليه ان يتسلم منصب حاكمية مصرف لبنان بعد أيام، ويضمن بتوقيعه استمرار عمل الموقع الأعلى للسلطة النقدية بالبلد.
النائب الأول لحاكم مصرف لبنان وسيم منصوري، وبدلاً من تحمّل مسؤولياته، وفق ما يقتضيه قانون النقد والتسليف عند انتهاء ولاية الحاكم بعد أيام، ما لم يتم تعيين حاكم جديد، كما بات مرجّحاً، بادر إلى اتخاذ موقف “متأرجح” حيال قيامه مقام حاكم مصرف لبنان، متقدّماً زملاءه العاجزين عن التعبير عن موقف حاسم من تولي منصوري مهامه.
ذرائع تخفي حقيقة العجز
قبل أسابيع على انتهاء ولاية سلامة أصدر نواب الحاكم الأربعة بياناً شديد اللهجة، يضمر تهديداً بالاستقالة ما لم يُصر إلى تعيين حاكم جديد. وبصرف النظر عن أن بيانهم وتلويحهم بالاستقالة يخفي تهرباً من تحمل المسؤوليات المناطة بهم، خصوصاً بالنائب الأول للحاكم وسيم منصوري، عمّد النواب الأربعة لاحقاً إلى طرح خطة تعجيزية وإن كانت محقّة، كشرط لتوليهم المسؤوليات بعد انتهاء ولاية سلامة.
شروط تبدأ من تقديم موازنة العام المقبل خلال شهر تشرين الأوّل، وإقرار قانون الكابيتال كونترول خلال مهلة شهر واحد، ولا تنتهي بإقرار قوانين شكّلت موضوع خلاف في البلد منذ سنوات، كإعادة هيكلة القطاع المصرفي والانتظام إلى القطاع المالي وغيرها.
إن إمعنا قليلاً بما يخفيه تبدّل المواقف، قد لا نجد تفسيراً سوى التهرّب المتعمّد من تحمّل المسؤولية في حاكمية مصرف لبنان عقب سلامة. فالنواب الأربعة على دراية تامة بأن التوقيع الأساس بعد سلامة يعود للنائب الأول. وهذا الأخير يبدو عاجزاً تماماً عن توليه مهام حاكم مصرف لبنان.
وليس العجز توصيفاً عرضياّ، إنما هو واقع يمكن التحقق منه ببساطة عند استعراض مسيرة وسيم منصوري وسيرته العلمية والمهنية. النائب الأول الذي يعلّق اللبنانيون، خصوصاً المودعين منهم، آمالهم عليه لإنصافهم، هو محام تولى منصبه باسم رجل سياسي يربطه بسلامة من الصداقة ما يتجاوز منصوري نفسه، محام “خائف” من المسؤولية التي تنتظره، وعاجز أصلاً عن تحمّلها. فمن هو وسيم منصوري؟
من هو وسيم منصوري؟
وسيم منصوري النائب الأول لحاكم مصرف لبنان (شيعي) يتحدّر من بلدة عيترون الجنوبية، وهو إبن بيئة حركة أمل. لعب دور الوكيل القانوني لرئيس مجلس النواب نبيه برّي، الذي تربطه به قرابة عائلية. تولى مهمة مستشار وزير المال السابق علي حسن خليل.
ذاع صيته خلال توليه قضية ضد حرية التعبير بوجه المتظاهر صلاح نور الدين، الذي رفع لافتة في الحراك المدني عام 2015 تحمل صورة كل من رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط، وكتب عليها “رؤوس الإجرام والفساد والسرقة”.
ولم تقتصر خبرات منصوري المهنية على تلك القضية. فقد ارتكب مخالفة قانونية واضحة باستمراره بممارسة عمل مأجور لما بعد توليه منصب استاذ متفرّغ في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية. وهو أمر مخالف لقرار مجلس الوزراء الصادر عام 2014، الذي يمنع على الهيئة التعليمية في الجامعة اللبنانية ممارسة أي عمل مأجور خارج عملهم الأساسي في الجامعة.
وتولى منصوري عام 2019 منصب المدير المؤقت للفرع الفرنسي في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية، بشكل غير شفاف ومثير للتساؤلات. فقد عيّن رئيس الجامعة اللبنانية البروفيسور فؤاد أيوب المحامي منصوري مديراً موقتاً للفرع الفرنسي في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية، خلفاً للدكتورة سيبيل جلول. وذلك قبل انتهاء ولايتها، ومن دون أن تتقدم الأخيرة باستقالتها.
تولى منصوري منصب عضو مجلس إدارة المنطقة الاقتصادية الخاصة في طرابلس، التي صدر قانون إنشائها عام 2005، وتعطّل عملها ودخلت في الفراغ بفعل سياسة المحاصصة.
المحامي منصوري الحاصل على دكتوراه في القانون الدستوري من إحدى جامعات فرنسا، هو صاحب ومدير مكتب منصوري وشركاه للمحاماة، وعضو الشعبة الوطنية لمحكمة التحكيم الدائمة. وهو حاصل أيضاً على شهادات جامعية أخرى، تدور جميعها في فلك القانون العام والقانون الدستوري.
باختصار، لا يمتلك وسيم منصوري على الإطلاق أي خبرات أو كفاءات في مجال الاقتصاد والمال والنقد. من هنا باتت واضحة الأسباب الكامنة وراء رفضه لتسلّم مسؤولية حاكم مصرف لبنان كنائب أول.
هذه سِيَر نواب الحاكم
وليست سِيَر نواب الحاكم الآخرين بأفضل من سيرة منصوري. فهؤلاء يتحّدرون من مصارف لبنانية تجعل من الصعب عليهم الوقوف في وجه أي قرارات أو تعاميم تصب في مصلحة المصارف. من هنا يستغرب مصرفيون تصريح نواب الحاكم بأنهم كانوا عاجزين عن منع رياض سلامة من اتخاذ قرارات وتعاميم مخالفة.
وبالإضافة إلى كون نواب الحاكم الثاني والثالث والرابع متحدّرين من مصارف لبنانية، إلا أنهم أيضاً يشكّلون الأغلبية في المجلس المركزي. وعليه لم يعد الاختلاف مع رياض سلامة والخلاف على القرارات والتعاميم مسألة مُقنعة.
وبالعودة إلى سيرة النائب الثاني لحاكم مصرف لبنان، وهو بشير يقظان، فقد شغل مناصب عدة في بنك بيروت والبلاد العربية BBAC منها مساعد المدير العام لشؤون الحوكمة والمخاطر والامتثال بين 2018 و2020، ورئيس إدارة المخاطر بين 2012 و2020، وضابط ائتمان بين 1999 و2006.
عمل مدرساً للمالية في الجامعة الاميركية للعلوم والتكنولوجيا بين 2011 و2019. كما تولى منصب مساعد المدير العام لشؤون الائتمان وادارة المخاطر في بنك سوريا والمهجر بين 2011 و2012. ومدير الائتمان والمخاطر في البنك ذاته بين 2006 و2011. حاصل على ماجستير في إدارة الأعمال عام 2000 من الجامعة اللبنانية الاميركية.
النائب الثالث سليم شاهين كان عضو مجلس إدارة بنك البحر المتوسط منذ عام 2017، وأستاذ في العلوم المالية في الجامعة الاميركية منذ عام 2011.
شغل منصب عميد كلية سليمان العليان لإدارة الاعمال في “الجامعة الاميركية في بيروت” بين 2013 و2015. كما كان أستاذاً محاضراً في عدد من الجامعات في الولايات المتحدة وبريطانيا والإمارات. حاصل على دكتوراه في المالية من إحدى الجامعات الفرنسية.
أما النائب الرابع، ألكسندر مراديان، فلا سيرة ذاتية له على أي من الصفحات والمنصات الرسمية. وتُختصر سيرته بانه مدير العلاقات مع المستثمرين في بنك لبنان والمهجر.
سِيَر غير مشجّعة لنواب حاكم مصرف لبنان. ولعل أكثرها صعوبة سيرة منصوري المهنية، البعيدة كل البعد عن القطاع المالي والنقدي. ما يضع مصرف لبنان ومعه الليرة بين ناري التمديد لسلامة والإجهاز على ما تبقى من مقدرات اللبنانيين، أو تولي منصوري زمام الأمور والسير بالاتجاه عينه إلى الانهيار التام.