اللهجة التي استخدمها وزير الأشغال العامّة علي حميّة، هي نفسها التي يمكن سماعها -بحرفيّتها- عند الحديث مع أي مسؤول في شركة طيران الشرق الأوسط أو المديريّة العامّة للطيران المدني: ما تلقاه لبنان لتأكيد استمرار عمل المطار، كان تطمينات دوليّة لا ترقى إلى مستوى الضمانات. أو بعبارة أخرى، ما تلقاه لبنان يكفي لتحديد درجة المخاطر عند مستوى مقبول، يسمح بإقلاع الطائرات وهبوطها في الوقت الراهن، من دون أن يكفل ذلك عدم فرض الحصار الجوّي في مرحلة لاحقة، تمامًا كما حصل في حرب العام 2006.
وما يمكن الرهان عليه حاليًا، لاستمرار الواقع الحالي، هو المصالح الدوليّة المرتبطة بعمليّات المطار، والتي تفسّر الاهتمام الغربي بإرسال تلك التطمينات، للإبقاء على وضعيّة الطيران التشغيليّة الراهنة. بهذا المعنى، يمكن القول أنّنا أمام واقع مستقر نسبيًا، بخصوص هذا المنفذ الجوي، وإلى أن تتغيّر المعادلات التي تفرض الغطاء الخارجي الممنوح حاليًا لعمليّات المطار. أمّا استمرار عمل شركة طيران الشرق الأوسط، بموازاة الحديث عن “تقييم يومي” لمخاطر الإقلاع والهبوط، فيؤكّد أن التقدير الأمني الراهن مبني على معطيات واتصالات ذات مصداقيّة، بانتظار تبدّل أو تثبيت “التطمينات” الممنوحة للبنان.
مصالح تقتضي حماية المطار
تلمّس الحرص الغربي على استمرار عمل المطار لا يحتاج إلى الذهاب خلف كواليس المداولات التي جرت مع المسؤولين اللبنانيين. المتحدّث بإسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة ماثيو ميلر، أصرّ شخصيًا على تخصيص مطار بيروت بتصريحٍ يوم الإثنين الماضي، لمطالبة إسرائيل بتحييد هذه المنشأة عن أعمالها الحربيّة، “وكذلك الطرق المؤدية إليه”. وكان من الواضح أنّ هذا القلق الأميركي جاء بموازاة اقتراب الغارات الإسرائيليّة باتجاه المناطق المحاذية للمطار، بل وعلى الطريقين الرئيسيين المؤديين إليه، وهو ما هدّد بإمكانيّة عزل المطار كليًا عن سائر المناطق اللبنانيّة.
وعلى أي حال، تشير المصادر الحكوميّة المتابعة لاتصالات الجانب اللبناني إلى أنّ العديد من العواصم الغربيّة، وفي طليعتها باريس ولندن، واكبت الجهد الأميركي الذاهب بهذا الاتجاه. وهذا يتصل أولًا بجهود إجلاء الرعايا الأجانب المستمرّة حتّى هذه اللحظة عبر المطار، في مقابل التعقيدات اللوجستيّة والكلفة المرتفعة التي تحيط بعمليّات الإجلاء البحريّة، والتي تحتاج إلى استخدام محطات وسيطة لاستقبال مراكب الإجلاء. كما تتصل هذه الجهود بالمساعدات الغربيّة والعربيّة العاجلة التي يتم شحنها عبر الجو، والتي لا يمكن نقلها بالسرعة نفسها عبر وسائل الشحن البحري.
المشهد يزداد تعقيدًا اليوم في ظل الظروف السياسيّة، التي لم تعد تسمح للغالبيّة الساحقة من الدول الغربيّة باستخدام مطار دمشق، كقاعدة لإجلاء الرعايا الأجانب كما جرى في حرب العام 2006. كما أدّى انقطاع طريق المصنع بين بيروت ودمشق إلى مفاقمة التعقيدات المحيطة بالطرق البديلة لشحن المساعدات العاجلة إلى بيروت، عبر المنظمات الدوليّة والإنسانيّة. بهذا الشكل، باتت البدائل عن مطار بيروت متعذّرة.
تطمينات مؤقّتة وليست مطلقة
بالنسبة لرحلات الإجلاء، تشير المعلومات إلى أنّ الولايات المتحدة وبريطانيا حضّرتا قوّاتهما الموجودة في قبرص لسيناريوهات قد تستلزم تحرّكًا طارئًا واستثنائيًا، من قبيل تنظيم رحلات بحريّة في حال توقّف الرحلات عبر مطار بيروت. لكنّ حتّى هذه اللحظة، تعتمد الدولتان على حجز مقاعد في الرحلات الجويّة المتاحة عبر المطار، لإنجاز عمليّات الإجلاء بكلفة أقل.
أمّا فرنسا التي تعتمد حاليًا على الرحلات الجويّة أيضًا، فوضعت خطط طوارئ تركّز على استخدام الموانئ التركيّة كمحطات وسيطة لاستقبال الرعايا عبر البحر، في حال تعثّر العمليّات الجويّة. مع الإشارة إلى أنّ باريس وجّهت حاملة طائرات للاستعداد لمواكبة هذه العمليّة، في مياه شرق المتوسّط، في حال تدهور الظروف الأمنيّة.
هذه الوقائع، تشير إلى أنّ المصالح الغربيّة المرتبطة بعمليّات المطار يمكن أن تكون ظرفيّة ومؤقّتة. أي أنّ هذه الدول المؤثّرة في المشهد، تملك خطط بديلة –وإن كانت مكلفة- في حال إصرار إسرائيل على تجاهل جميع الضغوط الدوليّة، عبر فرض الحصار الجوي على لبنان. وهذا ما يفسّر التوصيف –الذي أشرنا إليه- المعتمد من قبل السلطات الرسميّة اللبنانيّة للواقع الراهن: تطمينات لا ترقى إلى مستوى الضمانات. وهذا أيضًا ما يفسّر إصرار شركة طيران الشرق الأوسط على اعتماد تقييم يومي للظرف الأمني المحيط بعمليّاتها، قبل اتخاذ قرارات الهبوط والإقلاع، بناءً على الاتصالات التي تجريها الحكومة مع الجهات الدوليّة.
الإشكاليّات التشغيليّة والأمنيّة
لم يقتصر الخطر على عمليّات المطار على احتمالات فرض الحصار الجوّي، من جانب إسرائيل. إذ فور تصاعد الأعمال العدائيّة الإسرائيليّة، باتجاه الضاحية الجنوبيّة، علّقت شركات الطيران الأجنبيّة رحلاتها باتجاه لبنان، بمعزل عن أي تطمينات أو تقييم أمني للظروف الراهنة. فقرار تلك الشركات لم ينبع فقط من خشيتها على سلامة الرحلات، بل ارتبط أيضًا بحسابات الجدوى الاقتصاديّة، بعد رفع شركات التأمين كلفة بواصلها على الطيران بأكثر من 10 أضعاف، بسبب المخاطر القائمة. وإشكاليّة الجدوى الاقتصاديّة تنبع كذلك من عدم وجود طلب على تذاكر الطيران باتجاه بيروت، ما يقلّص عوائد الرحلات باتجاه المطار إلى النصف.
لهذا السبب، لم يبقَ في الميدان إلا الناقل الوطني، المُلزم بتأمين استمراريّة العمل في المطار، في مقابل استفادته من أشكال مختلفة من الدعم الحكومي الضمني أو الصريح. لتأمين استمراريّة عمليّاتها، استفادت شركة طيران الشرق الأوسط من تغطية الحكومة لكلفة التأمين، وهو ما حيّد ارتفاع أسعار البوالص عن حسابات الشركة الماليّة. وفي مقابل خلو رحلات الإياب من الركّاب، باعت الشركة بطاقات الذهاب بسعر فترات الذروة، أي عند مستوى أسعار المواسم السياحيّة التي يشتد خلالها الطلب. وهذا ما يفسّر شكوى المواطنين من ارتفاع الأسعار، في مقابل تأكيد الشركة على التزامها بالجداول السابقة، التي توائم الأسعار مع مستوى الحجوزات والطلب.
على المستوى الأمني، كانت الإشكاليّة تلويح الجيش الإسرائيلي بتوجيه ضربات للمطار، بذريعة الحؤول دون استخدامه لنقل أسلحة إلى حزب الله. وهذا ما جرى التعامل معه لبنانيًا من باب “سدّ الذرائع”، عبر توسيع صلاحيّات الجيش اللبناني في المطار، لتأكيد عدم استخدامه من قبل أي جهة غير حكوميّة -وخصوصًا حزب الله- لأغراض عسكريّة. بهذا الشكل، بات التدقيق في هويّة الطائرات وحمولتها وأذونات تفريغها وهبوطها موسومًا بشهادة مؤسسة موثوقة محليًا ودوليًا، وعلى وجه الخصوص: غربيًا وعربيًا. ومن هذه الزاوية، سيكون أي اعتداء إسرائيلي على المطار، بنظر المجتمع الدولي، مجرّد عدوان من باب العقاب الجماعي، من دون أن يكون هناك إمكانيّة للتذرّع بوجود أي هدف عسكري.