يعيش المشهد النقدي في لبنان تحدّيات معقّدة ومتداخلة تعكس واقعاً اقتصادياً متأزّماً وأزمة ثقة عميقة بالنظام المالي والمصرفي. في ظلّ الضغوطات الدولية والمحلية، يتوجّب على لبنان اتّخاذ خطوات جادّة لإعادة الثقة وبناء نظام ماليّ مستدام. تأتي هذه المقالة لتسلّط الضوء على أبرز التحدّيات التي تواجه لبنان في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والآثار المترتّبة على الاقتصاد النقدي المعتمد بشكل كبير على الكاش. بالإضافة إلى التداعيات المحتملة لزيارة وفد صندوق النقد الدولي ومشروع إعادة هيكلة المصارف. من خلال تحليل هذه المحاور، نسعى إلى تقديم صورة واضحة وشاملة للواقع النقدي في لبنان بعيداً عن نهج الترغيب والترهيب الذي نشهده اليوم. وفي الختام استعراض السبل الممكنة للخروج من الأزمة الحالية.
ما هي أبرز التحدّيات اليوم:
– لبنان متّهم أم بريء في إطار مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب؟!
قرار مجموعة العمل الماليّ في منطقة الشرق الأوسط وشمالي إفريقيا (MENA FATF) وتصنيف لبنان متعاوناً كلّياً أو جزئياً (اللائحة الرمادية) أو غير متعاون كلّياً (اللائحة السوداء) في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، أو إبقاء الأمور على ما هي عليه اليوم (تمديد فترة السماح والمراقبة)، هي خيارات واردة جداً.
ثمة يقين بأنّ مجموعة العمل الماليّ تدرك أنّ اللجوء المفرط إلى استعمال الكاش في لبنان ليس رغبة من مكوّنات القطاع الخاص بتبييض الأموال أو تمويل الإرهاب. وأمّا السبب الحقيقي فهو فقدان الثقة بالمنظومة المالية. لهذا السبب لبنان سوف يبقى بلداً متعاوناً في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المصارف اللبنانية تلتزم الإجراءات المتشدّدة المفروضة والمطلوبة منها من المصارف المراسلة.
– الكاش واقتصاد الظلّ:
مصدر همّ للخزينة الأميركية. وقد تنتج عنه عقوبات على القطاع المصرفي، أو على مصرفيين… فهل ينجح حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري في إعادة الحياة إلى القطاع المصرفي في لبنان؟
اعتماد الدولار الأميركي باعتباره النقد الوطني غير المُعلَن في لبنان يدفع بالخزينة الأميركية إلى الاهتمام لمعرفة كيف تُستخدم دولاراتها. اقتصاد الكاش يعطي مساحة إضافية لمن يريد الاصطياد بالماء العكر، من يريد تبييض الأموال ومن يريد تمويل الإرهاب.
التعميم الأساسي لمصرف لبنان رقم 165 الصادر في 19 نيسان 2023، هو إحدى الطرق التي تخفّف من الاعتماد على الكاش وتدفع باتجاه العودة إلى وسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي. لكنّه غير كاف. على المصارف، كلّ مصرف على حدة، إطلاق عجلة إعادة ترميم الثقة بينها وبين مكوّنات المجتمع اللبناني من أفراد ومؤسّسات. من خلال إطلاق عجلة التواصل الإيجابي مع المودعين، والدائنين، والنظر جدّياً في كيفية توفير حاجاتهم من السيولة لتمويل الأساسيات من استهلاك وطبابة وتعليم. إلى جانب العودة إلى المؤسّسات لتوطين مصاريفها التشغيلية من رواتب وأجور.
– التأجيل والمماطلة يزيدان من هموم الناس:
الدولار المصرفي أو دولار السحوبات من الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي.
التعميم الأساسي رقم 167 الصادر في 2 شباط 2024، حدّد بوضوح سعر صرف الدولار المصرفي، والضبابية والجدل يحومان حول سعر صرف دولار السحوبات من الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي. صلاحيات الحاكم واضحة وتخوّله تحديد سعر صرف دولار السحوبات وسقف هذه السحوبات (هذا كان مضمون التعميم الأساسي رقم 151 الذي انتهى العمل به مع انتهاء عام 2023). وثمة رأي بأنّ امتناع الحاكم عن إصدار تعميم كهذا لا شأن له بالصلاحيات.
– وفد من صندوق النقد الدولي يزور لبنان للوقوف عند آخر المستجدّات:
ماذا عن شروط اتفاق نيسان 2022 (Staff-Level Agreement)؟
ماذا عن برنامج الإنقاذ: برنامج إنقاذ أم برنامج تقشّف؟
تقرير صندوق النقد الدولي خلال الفصل الأوّل من سنة 2023 تحت المادّة 4 (4 Article) كان واضحاً لجهة رفضه موازنة 2022 شكلاً ومضموناً. واعتبر التعديلات التي أُدخلت على قانون السرّية المصرفية دون المطلوب بكثير لمكافحة الفساد. ويبقى الصندوق ناشطاً في المتابعة والمثابرة لإيصال لبنان، وطناً ومواطناً، إلى برّ الأمان. كلّما حاولت مكوّنات الطبقة السياسية الترويج أنّ الصندوق تخلّى عن لبنان، تسارع الوفود من الصندوق لتأكيد غير ذلك. المشكل أصبح واضحاً: غياب الإرادة عند أصحاب القرار في لبنان لإقرار الحلول وتنفيذها.
– مشروع إعادة هيكلة المصارف:
مشروع في عداد المفقود بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومصرف لبنان يلتزم الحياد.
فقدانه يعزّز غياب الرقابة ويغذّي الاستنسابية والزبائنية في امتثال المصارف لأحكام تعاميم مصرف لبنان. ومسؤولية لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان واضحة في الحدّ من هذه الممارسات.
قد يكون قانون “الكابيتال كونترول” من مسؤولية مجلس النواب. لكنّ تنظيم العلاقة بين المصارف التجارية ومكوّنات المجتمع اللبناني، أفراداً ومؤسّسات، هو من مسؤولية مصرف لبنان، وهذا ما نحن بحاجة إليه اليوم أكثر من أيّ قانون.
من رحم هذا الجدل وُلدت أفكار جهنّمية للتمييز بين ودائع مؤهّلة وودائع غير مؤهّلة. وبعدها انتقلت مشاريع القوانين إلى تصنيف الودائع بين شرعية، أي نظيفة، وغير شرعية، أي مصدر أموالها غير محدّد أو غير قانوني ربّما.
عندما يقبل المصرفي الوديعة، تصبح مؤهّلة وشرعية. وعند وجود أسباب موجبة للتحقيق في مصدر الأموال (الجرائم الـ21 المدرجة في القانون 2015/44)، تراتبية المسؤولية تبدأ بالمصرف بسبب فشله في تطبيق إجراءات مكافحة تبييض الأموال ويتحمّل مسؤولية هذا الفشل. ومن الضروري تحميل صاحب الحقّ الاقتصادي المسؤولية عن هذه الأموال “غير النظيفة”. لكنّ هذه المسؤولية موجودة وهي تشكّل جزءاً أساسياً من الممارسة المصرفية الرشيدة. ومن الخطأ إدراجها كإحدى نقاط الحلّ في موضوع الودائع.
إذا كان استيفاء الوديعة لشروط مشروع القانون معطوفاً على الفوائد العالية التي كان يستفيد منها صاحب الحقّ الاقتصادي لهذه الأموال، يكون الحلّ بوضع ضريبة لمرّة واحدة على رأس المال (One-time capital gains tax)، ولا يكون الحلّ بتصنيف الوديعة غير مؤهّلة.
– الدولرة الشاملة: نقمة أم نعمة؟
اللجوء إلى عملة بديلة تحظى بثقة وقبول مكوّنات المجتمع اللبناني في القطاع الخاص أوّلاً، ثمّ في القطاع العام، كان ضرورياً في السابق، وهو كذلك اليوم. حدثان أساسيان مهّدا الطريق أمام هذه الخطوة: تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 161 تاريخ 16 كانون الأول 2021. فهو أسّس لإنشاء مجلس نقد (Currency Board) بطريقة غير مباشرة لتلبية حاجة الدولة من العملة الأجنبية. وأيضاً عدّل أهداف منصّة صيرفة (التي أنشئت بموجب تعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 157، تاريخ 10 أيار 2021) وفَعّلَ العمل بها. ومن أهمّ ما فيه صرف رواتب وأجور القطاع العام على سعر صرف مدعوم. ويُعمَل به فقط لمدّة شهر قابلة للتعديل بأحكامه، فيُجدّد العمل بها أو يُلغى.
كان قانون الموازنة العامة لعام 2024 المكمّل لهذه الخطوة لأنّ عدوى الدولرة طالت الإيرادات من رسوم وضرائب. والحدث الآخر كان طلب أصحاب السوبرماركت في لبنان مباشرة، والمستوردين من خلفهم، من وزارة الاقتصاد السماح لهم باعتماد الدولار الأميركي عملة التسعير. وكان لهم ما أرادوا. اتّخذ القرار وزير الاقتصاد بالتشاور مع حاكم مصرف لبنان. وتوسّعت رقعة الدولرة بعدها لتشمل الإيرادات والنفقات في القطاع الخاص.
– استقرار سعر صرف الدولار ومنصّة بلومبرغ للتداول بالعملة الأجنبية:
بحسب حاكم مصرف لبنان، فإنّ الوضع الأمني على الشريط الحدودي جنوباً هو سبب تأجيل إطلاق منصّة بلومبرغ. وكان هناك سبب آخر يتعلّق بأنّ صندوق النقد لا يرى الوقت مناسباً. لأنّها تحدّد سياسة البلاد النقدية لعقود مقبلة.
نذكر ثلاث نقاط أساسية في هذا الإطار:
– أوّلاً، البيئة الاقتصادية اليوم مقارنة بالوقت الذي أطلّ فيه علينا الحاكم واعداً باعتماد منصّة لتبادل العملات الأجنبية بدلاً من “منصة صيرفة” جدّ مختلفة.
– ثانياً، الاستقرار الذي يشهده سوق القطع الأجنبي اليوم هو حقيقي ويجب العمل على المحافظة عليه. أضِف إلى هاتين الملاحظتين قانون تنظيم مهنة الصيرفة في لبنان ودور لجنة الرقابة على المصارف في ضبط الإيقاع في هذا السوق.
– ثالثاً، قانون النقد والتسليف يعطي الدكتور منصوري صلاحيّات الأصيل. وهذا يعني أنّه عملياً حاكم وليس حاكماً بالإنابة. ولا توجد أيّ مشكلة عند المواطن اللبناني اليوم إذا اتّخذ منصوري قراراً، وكان هذا القرار يحدّد سياسة لبنان النقدية لعقود مقبلة. كلّ هذا يدفعنا إلى الاستنتاج بأنّ الأسباب الموجبة لإطلاق العمل بمنصّة إلكترونية مخصّصة للتبادل بالعملات الأجنبية لم تعد موجودة أو مقنعة.
في الختام، يتّضح أنّ حلول أزمة لبنان المالية تتطلّب نهجاً شاملاً وتكاملياً يتجاوز الإصلاحات الجزئية. ينبغي لأصحاب القرار أن يعوا أنّ إعادة بناء الثقة بالنظام المالي تبدأ بالتزام حقيقي بالإصلاحات الهيكلية ومكافحة الفساد:
– أوّلاً، من الضروري تعزيز الشفافية في التعاملات المالية واعتماد نظم رقابة فعّالة تضمن الامتثال لمعايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. يجب على مصرف لبنان أن يأخذ دوراً ريادياً في تنظيم العلاقة بين المصارف والمجتمع اللبناني، من خلال تنفيذ سياسات واضحة وفعّالة تعيد الثقة بالنظام المصرفي.
– ثانياً، ينبغي تحسين التواصل مع المؤسّسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، وتنفيذ شروط الاتفاقيات التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي. يجب أن تكون هناك إرادة سياسية واضحة لإقرار وتنفيذ الحلول التي تقدّمها هذه المؤسّسات.
– ثالثاً، لا بدّ من تبنّي استراتيجيات جديدة لتقليل الاعتماد على الكاش وتحفيز استخدام الوسائل الإلكترونية للدفع، وهو ما يعزّز من قدرة النظام المالي على مراقبة ومنع الأنشطة غير المشروعة.
– رابعاً وأخيراً، يجب التركيز على إعادة هيكلة المصارف بطريقة عادلة وشفّافة، تحمي حقوق المودعين وتضمن استمرارية النظام المصرفي. تحقيق هذه الأهداف يتطلّب تضافر جهود كلّ الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومة، القطاع الخاصّ، والمؤسسات الدولية، لضمان مستقبل اقتصادي مستدام ومزدهر للبنان.