اقتراح حكومي ملغوم للتحوّل الرقمي: قوننة انتهاك البريطانيين لـ«داتا» اللبنانيين

رغم المخالفات القانونية التي ارتكبها التفتيش المركزي في إبرامه اتفاقاً مع شركة أجنبية مشبوهة لتسيير منصة impact بما أتاح لها الحصول على «داتا» اللبنانيين، فإنّ على جدول أعمال مجلس الوزراء اقتراحاً لتوسيع مهام المنصة، تحت إشراف الشركة نفسها، بما يتيح لها الحصول على مزيد من البيانات المتعلقة بكلّ إدارات الدولة ومؤسساتها وأجهزتها

في تشرين الثاني 2019، وقّع رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية مذكّرة تفاهم بقيمة 2.5 مليون جنيه إسترليني (نحو ثلاثة ملايين دولار) لثلاث سنوات (تنتهي في 31 آذار 2022) مع وزارة الخارجية والتنمية البريطانية ممثّلة بالسفير البريطاني في بيروت إيان كولارد، لـ «دعم (إدارة التفتيش) ومساعدتها في بناء قدرتها وتطويرها وتعزيز رقابتها وتفعيل تعاونها مع الإدارات والمؤسسات العامة». في المقابل، يلتزم التفتيش «بمرونة وفعّالية وضمن مهل زمنية محددة»، بالاستجابة لطلبات فريق عمل مؤسسة «سايرن اسوشيتس» البريطانية غير الحكومية، التي اشتُرط أن يُعهد إليها تنفيذ المشروع. وشمل المشروع إنشاء منصة impact التي جمعت داتا اللبنانيين من تسجيل طلبات لقاحات «كورونا» وأذونات التنقل خلال الجائحة، وإدارة برنامج الأمان الاجتماعي، وطلبات الحصول على البطاقة التمويلية وبرنامج شبكة الأمان الاجتماعي، وحصرت «سايرن» الوصول إلى البيانات الخاصة بالمنصّة بموظفيها، واحتفظت بالـ«داتا» على خوادم في ألمانيا وهولندا، ليس معروفاً من له حقّ الولوج إليها. انتظر عطية حتى 5/4/2022، أي بعد 5 أيام على تاريخ انتهاء المذكّرة، ليوجّه كتاباً إلى رئاسة مجلس الوزراء أرفق به نسخة عن المذكّرة طالباً «الاطّلاع وتقرير المناسب آملين الموافقة على قبول هذا الدعم التقني والفني». يومها أحال الأمين العام لمجلس الوزراء محمود مكية الطلب إلى وزير المال يوسف خليل وإلى ديوان المحاسبة مشفوعاً بملاحظات حول سلسلة مخالفات ارتكبها عطية (راجع «الأخبار» الإثنين 9 كانون الثاني 2023 )، من بينها أن الملف «لم يتضمّن رأي وزارة الخارجية قبل توقيع المذكّرة»، التي لم تسلك «المسار الإداري لإعداد وإقرار الاتفاقيات والمعاهدات ومذكّرات التفاهم»، و«عدم صدور أيّ قرار عن الحكومة بقبول الهبة»، وخلو الملف من «أي كشوفات أو مستندات تُبيّن وجهة الصرف والإنفاق»، وتخطي التفتيش لدوره الرقابي والاهتمام بمهام تنفيذية (إدارة المنصة) ليست من صلاحيته. وعندما ثبّت الديوان ارتكابات عطية، استقوى الأخير بسفراء بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وهولندا وألمانيا واليابان الذين «غزوا» القصر الحكومي في التاسع من آذار 2023، للضغط على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من أجل إصدار بيان يدعم رئيس التفتيش، أُتبِع ببيان من منظّمات من المجتمع المدني (يرتبط بعضها بالسفارات الأجنبية)، فيما لم يُعر أحد أهمّية لبيان «شبكة التحوّل والحوكمة الرقمية في لبنان» (تجمّع لممثّلي المجتمع المدني الرقمي) التي ندّدت يومها بتجاوزات التفتيش، وطالبت باعتبار بيانها إخباراً.

فخّ الشامي

نزولاً عند ضغوط السفارات، خصوصاً البريطانية، بدأت محاولات لتشريع الاتفاقية والتصديق عليها، على سبيل التسوية. طُرح البند على جدول أعمال جلسة الحكومة، في 12 كانون الثاني الماضي، قبل أن يُرحّل إلى جلسة السبت الفائت، ثم إلى الجلسة المقبلة. الأسوأ من «التسوية» المطروحة، أن ورقة بعنوان «مفكّرة حول استثمار منصة إمباكت»، وُزّعت على الوزراء، طبخها نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، يعرض فيها «لتقرير أولي صادر عن لجنة تطوير تكنولوجيا المعلومات». تقفز «ورقة الشامي» فوق كل ما سبق وفوق تقارير الأجهزة الأمنية التي حذّرت سابقاً من اعتماد منصة «إمباكت» وفوق تقرير ديوان المحاسبة، إذ تصف أداء المنصة بـ«الممتاز»، وبأنّ «التجربة حظيت برضى المسؤولين»، بما يبيّض ورقة عطية ويطوي أمر مساءلته قضائياً. وتخلص إلى اقتراح نقل المنصة من عهدة التفتيش إلى مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية.

إلا أن الأخطر في الورقة هو أنها تقترح، بسبب «تأخّر لبنان في اعتماد الحكومة الإلكترونية»، أن يعتمد «التحوّل الرقمي» و«تكوين قاعدة بيانات رقمية شاملة للدولة»، على منصة impact «للتقليل من كلفة هذا التحوّل، عبر استخدام المعدات والخوادم وقواعد البيانات والبرمجيات والتطبيقات التابعة لها، من قبل أي وزارة أو إدارة أو مؤسسة أو بلدية». وتطلب الورقة «السماح لوزارة التنمية الإدارية باستخدام خدمات الأطراف الخارجية مثل شركة سايرن، للمساعدة في تأمين البيانات، وتحديد المسار الأفضل للعمل». ما يعني، باختصار، أن كل ما لم تحصل عليه «سايرن»، تقترح الورقة تقديمه إليها على طبق من فضة. ولأن وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية لا هيكلية إدارية لها، تقترح الورقة تعيين 4 أشخاص للمساعدة في إدارة برنامج التحوّل الرقمي، على أن تدفع الجهات المانحة التي ستموّل برنامج الرقمنة رواتبهم.

كذلك يطلب اقتراح الشامي من هيئة «أوجيرو» زيادة قدرتها على التخزين ليُصار إلى تخزين بيانات الحكومة على سحابة الهيئة، على أن تتولى «التنمية الإدارية»، التأكد من أنّ أمن العمليات للبيانات في «أوجيرو» هو الأمثل، ويتولى الجيش وقوى الأمن الداخلي أمن المعلومات من خلال تحديد الاتجاه الأمني لجميع البيانات واقتراح التوصيات. فيما يتوّج نائب رئيس الحكومة اقتراحه بإسناد مهمّة الرقابة على كل هؤلاء و«الإشراف على برامج الرقمنة واستخدام البيانات وتدقيقها» إلى… رئيس التفتيش المركزي نفسه!

يصف مختصون في عالم التحوّل الرقمي الاقتراح بـ«الملغوم»، مشيرين إلى أن من الواضح أن كثيراً من الشكوك تحيط بمنصة impact، والاقتراح يأتي لـ«تجميلها» عبر بعض النقاط الشكلية، كالاحتفاظ بالبيانات لدى «أوجيرو»، ونقل إدارتها من جهة رقابية لا صلاحية (التفتيش) لها إلى جهة تنفيذية (وزارة التنمية الإدارية)، ولكن مع إبقائها تحت سيطرة الشركة البريطانية نفسها. ويلفت قانونيون إلى «عدم جواز إسناد ملف سيادي وضخم كهذا إلى وزير دولة لم يمنحه الدستور صلاحيات، ولا يمكنه ممارسة سلطة على بقية الوزارات، ولا جهاز تنفيذياً لديه»، فضلاً عن أن تعزيز الوزارة بموظفين يدفع المانحون رواتبهم، «يثير إشكالية الولاء وينسف الثقة بهؤلاء لمراقبة أمن العمليات». ويلفت هؤلاء إلى أن «استراتيجية التحوّل الرقمي» التي أقرّتها الحكومة عام 2022، تشدّد على مبدأ السيادة الرقمية، عبر جعل الخوادم ومركز البيانات في لبنان وتحت سيادة المؤسّسات الرسمية فقط، وعلى امتلاك الدولة للبرامج والتطبيقات ومفاتيح البرمجة، وإيلاء الأولوية للإنتاج الرقمي المحلي. فيما تضرب impact جوهر هذه الاستراتيجية لأنها منصة بريطانية، ولأن برمجتها ستبقى في يد «سايرن» أو سواها من الشركات الأجنبية، إذ إن «من يطوّر البرامج ويبرمج قاعدة البيانات يستطيع الولوج إلى البرامج والداتا ولو كانت موجودة في حوزة أوجيرو».

ما يُفترض أن يكون هو إقرار خطة تنفيذية لاستراتيجية التحوّل الرقمي، وهي خطوة لم تقم بها وزيرة التنمية الإدارية نجلا رياشي، إذ اكتفت بمراسلة الوزارات لسؤالها عن موظفي المعلوماتية لديها. كما لم تُقَرّ التشريعات اللازمة لمأسسة العمل بالتحوّل الرقمي عبر خلق جهة رسمية تُعنى بالملف، وفق ما جاء في الاستراتيجية. وعوضاً عن ذلك كله، تطرح ورقة الشامي اختصار عملية التحوّل الرقمي برمّتها بـimpact.

ويلفت معنيون إلى أنّ تحديد المكان الأصلح لحفظ «الداتا» هو واحد من البنود المفترض إدراجها في الخطة التنفيذية، وليس من صلاحية مجلس الوزراء تقرير جعل مركز البيانات الوطني في «أوجيرو» من دون خطّة ومن دون تحديد المهام والأدوار والصلاحيات. كما لا يمكن السماح للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي بالوصول «إلى كلّ البيانات» من دون وضع ضوابط، إذ إنّ القانون ينظّم عملية التنصّت حتى لغايات أمنية.

وإذا كانت التأثيرات الأمنية السلبية على الأمن اللبناني بسبب الانتهاك السابق للداتا عبر impact قد تتقلّص بعد سنوات بحكم تقادمها، فإن ما يطرحه الشامي هو السماح لمؤسسة أجنبية بوضع اليد على «داتا» أضخم يجري تحديثها باستمرار، ما يشكّل خطراً استراتيجياً على مستوى الأمن القومي.

 

مصدرجريدة الأخبار - ندى أيوب
المادة السابقةبوشكيان يفتتح معامل ‘ألبان المنارة’
المقالة القادمةنصف اللبنانيين يعانون من «فقر المياه»