قبل الولوج إلى الآفاق المستقبلية للبنان في الشأن الاقتصادي، ولوضع الأمور في نصابها الصحيح، لا بُدَّ من العودة قليلاً إلى حقبتين مِنَ الماضي بعد الاستقلال، الأولى نحو ثلاثة عقود قبل الحرب ما بين عامي 1943 و1975، والثانية ما بين عامي 1990 و2019 وصولاً إلى أيامنا هذه. فكيف يمكن استشراف المُستَقبَل إِنْ لَمْ نَتَعَرَّف على الماضي بمحطاته الأساسية، ونَتَعَلَّم مِنه؟
نهضة فكرية وثقافية ونمو إقتصاديّ مُستدام
خلافاً لِسَردِيَّاتٍ لها خَلفِيَّاتٌ سياسية أو عقائدِيَّة، تَمَيَّزت المرحلة الأولى وعلى الرغم من أحداث دامية جرت في الأعوام 1958 و1969 و1973، بنهضة فكرية وثقافية ترافقت مع نمو اقتصادي مُستدام، جَعَلا مِنْ ذاك اللبنان مَوئِلاً ومَلجَأً للكثيرين في هذا الشرق الجريح، فـ»بَحرُهُ بَرُّهُ دُرَّةُ الشرقين» على ما وَرَدَ في نَشيدنا الوطني. كما أمسى دولة سياحية صيفاً وشتاءً، ودولة خَدَماتٍ تَعليمية واستشفائية ومصرفية وتأمينية واستشارات قانونية وترانزيت إلى بلدان الجوار، وغيرها من الأنشطة.
وكان لبنان يُصدر في السنوات الخمس الأولى من سبعينات القرن الماضي، ما بين 60% و70% مِمَّا يَستَورِدُه مِن سِلَع، وفق أرقام البنك الدولي. هذا من دون أن ننسى أنَّه أقرض بالليرة اللبنانية إلى دول ومؤسسات دولية، ما يَدُلّ على قُدراته آنذاك وعلى قُوَّة عُملَتِهِ الوَطَنِيَّة حَيثُ كان الدولار الأميركي يُساوي نحو ليرتين ونصف وصولاً إلى 219 قرشاً في آذار 1975.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ لبنان لَمْ يكُنْ مَديوناً ولا بفلس واحِد بَعدَ عَامٍ وَنَيِّف على اندلاع الحرب، كَما وَرَدَ في خطاب الوداع للرئيس الراحل سليمان فرنجيه بتاريخ 19 أيلول 1976، وَلَمْ يَكُن دَينُه في أوائل العام 1991 يَتَجاوز 1,8 مليار دولار معظمه بالليرة اللبنانية. أيضاً وَبِفَضْلِ حُكَماءِ تلك السنوات الخيّرة، كانت حسابات الخزينة تُسجّل فوائض متراكمة، تُرجمت احتياطات من الذهب بلغت 341, 222, 9 أونصة أُودِعَت حينذاك في مصرف لبنان، وتساوي قيمتها وفق الأسعار الرائجة حالياً، نحو 8, 18 مليار دولار هي قرشنا الأبيض لحقبة الحرب والعقود الثلاثة التي تلتها والتي تَمَيَّزَت بإعادة إعمار الحجر لكن بغياب استراتيجية اقتصادية اجتماعية متكاملة.
إنتفاخ حجم الأموال المودعة
في المصارف
وإن وجِدَتْ مثل هذه الاستراتيجية فهِيَ لا تَتَعَدَّى كُونها أفكاراً لَمْ تَكُنْ رؤيوية وبقيت قاصرة ومُعتورة. لقد تَمَيَّزت مرحلة ما بعد أوائل التسعينات باقتصاد الريع، إذ شهدت انتفاخاً كبيراً في حجم الأموال المودعة في المصارف مقابل فوائد مُرتفعة أنهكت الاقتصاد الحقيقي الذي لَمْ يَسْتَفِد مِن تِلك التدفّقات النقديَّة إلَّا بالنزر اليسير، لا بَلْ تَحَوَّلَت إِلى عِبءٍ ثقيل على قطاعات الإنتاج. بالمقابل، ازدهرت المُضاربات العقارية وتوسّعت الحركة في قطاع البناء الذي كان مُعظم العاملين فيه عمالةً أجنبية والتي كانت غالِبيَّة مَوادِهِ تُستَورَد مِنَ الخارج ويُدفع ثمنها عُملات أجنبية. كما ازدادت هجرَةُ خِيرَة شَبابِنا بَحْثاً عَن فُرَصِ عَمَل خارِجَ وَطَنِهِم، مَا حَدا بِبَعض مُدَّعي المعرفة القصيري النظر إلى المفاخرة بهذا التصدير، عِوَضَ خَلْق فرص العمل والاستثمار المفيد على أرض لبنان.
انعكست البنية الريعية الهشّة للاقتصاد الوطني على مدى سنوات بعد الحرب، بالإضافة إلى العجز والفشل والفَسَاد والهدر وتحكّم الأوليغارشيات بمعظم مفاصل الدولة السياسية والإدارية والاقتصادية، خُروجاً من السوق المحلية لمعظم المصارف الأجنبية (أربعة مصارف فرنسية ومصرفان بريطانيان ومصرف أميركي ومصرفان كندیان ومصرف إيطالي ومصرفان هولَندِيَّان ومصرف سعودي ومصرفان أردنيان، ما مجموعه خمسة عشر مصرفاً، بالإضافة الى مكاتب تمثيل إقليمية لعدة مصارف أميركية وأوروبية). تفاقم العجز في الميزان التجاري نتيجة ضمور حجم الإنتاج الوطني وضعفِ قدرته التنافسية واتّساع مروحة المستوردات السلعية التي قاربت قيمتها الـ20 مليار دولار في العام 2018 توازي 36% من إجمالي الناتج المحلي في حينه. فانخَفَضَت نسبة الصادرات السلعية، تدريجياً مع مرور السنوات، لتصل إلى نحو 15% فقط من قيمة السِلَعِ المُسْتَوَرَدة في خلال الأعوام 2017 و2018 و2019.
«الهندسات» هي فعلاً هرطقات لتسديد العجوزات
تغاضى أصحاب القرار عن الاختلالات الخطيرة في الميزان التجاري وفي حسابات الخزينة، وراحوا يتبجّحون بقدرتهم على الاقتراض مِنَ الأسواق العالميَّة وَمِنَ المَصارِف المحلية، مُتناسين أنَّ القُروض يجب أن تُسَدَّد بالعملة ذاتها ومع فوائدها، وأكملوا تَكابُرَهم بأنْ عَمَدوا إلى تدوير معظم القروض أصلاً وفوائد. كما جرى ابتكار آليات مالية أسموها زوراً «هندسات» وهي فعلاً هرطقات هَدَفَت لتغطية سداد مُعظم العجوزات مِن مُدَّخرات الناس، مع تربيح قلة قليلة أوليغارشية، ما شكّل استيلاء على حقوق المودعين والتَصَرُّف بها في «عمليات بونزي» على يَدِ مَنْ كانَ يُفترض به وفقاً للقانون، السهر على حمايتها. وقد أخفوا مَعالِم جَرِيمَتِهم بتسجيل معظم الخسارات التراكمية المتأتية من تلك الشعوذات في حسابات مصرف لبنان تحت بند «موجودات أخرى». تَضَخَّمَت فَجوة الخسائر في مصرف لبنان لتصل وفق تقرير الفاريز أند مارسال، إلى 76 مليار دولار توازي ضعف ما كانَتْ عَلَيه في العام 2019، وتُضاف إلى ديون الخزينة التي تُقَدَّر قيمتها الدفترية راهِناً بِقُرابَة 110 آلاف مليار ليرة و44 مليار دولار أصلاً وفوائد بما فيها فوائد التأخير المُتَرَتِّبة على سندات اليوروبوندز غير المدفوعة عند استحقاقاتها. والجدير بالذكر أن القيمة الإسمية لمجمل محفظة سندات اليوروبوندز تبلغ 31,34 مليار دولار تُضاف إليها ديون لصالح مؤسسات دولية بنحو ملياري دولار. كُل تلك الممارسات الشاذة جَعَلَت لبنان يُعاني من عجز مالي خطير مُثَلَّث الأضلع، لم يسبق له مثيل في العالم، تظهّر بتآكل الادّخارات الوطنية التي استبيحت من دون وجه حق، وبالعجز في ميزان المدفوعات الخارجية المُتَأتي مِنَ العجز في الميزان التجاري وبالعجز في الموازنة، إلى أن وقعت الواقعة وكان الارتطام الكبير. مأساة لبنان واللبنانيين تكمن ليس فقط في إيصالهم إلى هذا القعر الحضيض، بَلْ أيضاً في أنَّ المُتَحَكِّمين بأوصال البلد، في السياسة والمال والاقتصاد والأمن والقضاء، تَهَرَّبوا ولا يزالون، من مُحاسبة المسؤولين عن هذا الواقع المزري، وما برحوا يُماطلون في وضع المعالجات الناجعة موضع التنفيذ.
فشل محاولات الإصلاح
لقد أفشلوا كمنظومة متماسكة، عابرة للطوائف والأحزاب، كُل محاولات الإصلاح الجدية، وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، الورقة الإصلاحية التي عُرضت على القيادات السياسية بتاريخ 2 أيلول 2019 في القصر الجمهوري في بعبدا، وخُطَّة التعافي المالي التي وافقت عليها الحكومة بتاريخ 30 نيسان 2020، من دون أن يطرحوا بدائل عَمَليّة تحمي المُجتمع والبلد.
ما سَبَقَ ذِكرُه هو مِنْ ضمن الفوارق بين مرحلة ما قبل الحرب وتلك التي تلتها، مِنْ نُمُو اقتصادي مُستدام وبَلَدٍ مُقرض قادر، إلى بلدٍ مُستقرض عاجز، مُسْتَتَبَع، يَشْحَذ القَلِيل بَلْ القليل. نتيجة ماذا ومَنْ؟ الأمر بات معلوماً لِمَنْ يُريد أن يعرف. في مطلق الأحوال، لا بُدَّ من التوضيح بأنَّ المرحلة الأولى وبالرغم مِن النُّمُو والتَطَوُّر في خلالها، لَمْ تُساهم بالحؤول دون اندلاع الحرب، بل كانت وجهاً مِن وُجوه مُسبّباتها.
أمَّا مرحلة الثلاثين عاماً بعد الحرب، فإنَّها تَمَيَّزت ولا تزال بهيمناتٍ مُتَعَدِّدة ومتنوّعة وممارسات سياسية واقتصادية ومالية، أوصلت لبنان إلى الانهيار والإفقار. وما يزيد الطِينَ بِلَّة أنَّ أحَداً مِنَ الذين تسبّبوا في هذا «الإفقار المُتَعَمَّد للشعب اللبناني» كما وَصَفَه مجلس حقوق الإنسان في الأمم المُتَّحِدة، لَمْ يُساءل في لبنان. أَوَهَلْ يُعقل أنْ تُقْتَرَف هذه الجريمة المالية غير المسبوقة ويُصار إلى التغطية أو التعمية على المجرمين بهكذا وقاحة وصلافة وأمام أعين الضحايا؟ أيُّها السيدات والسادة، لا أبتَكِرُ شَيئاً حين أقولُ أنْ لا فصل للاقتصاد وهوَ عِلمُ اجتماع، عن السياسة بمفهومها الإنساني، العلمي، الاجتماعي والبيئي والحقوقي المتكامل. ومن نافل القول إنَّ أيَّ رؤية اقتصادية للبنان ليس بالإمكان فصلها لا عَن بُنيته السياسية، المفترض تطويرها، ولا عن وضعِيَّته في منطقة المشرق العربي التي تشهد زلزالاً لَمْ ترتسم بعد معالم نتائجه.
أنا مِنَ المُقتَنِعين بأنَّ البحث في استدامة الاستقرار والازدهار في دولة شرق أوسطية دون سواها، بات صعباً وغَيرَ مَضمون. لَمْ يَعُد عَقَلانِيًّا وَضَعُ خُطط لتكبير الاقتصاد اللبناني وتثبيت ديمومة نُموّه من دون التفكير بالربط الاقتصادي المشرقي وصولاً إلى مصر ودول الخليج في سبيل التكامل وبناء التوازن مع التكتلات الاقتصادية الكبرى.
هذا موضوع ذو أهمية استراتيجية يستَحِقُّ أَنْ نَغوص فيه يوماً. وَعَليه، وفي ضوء ما تَقَدَّم، نَرى ضرورة العمل لبلورة مشروع وطني جديد في إطار نفضة فكريَّة تُخرج البلد من العقم الراهن، بما يُؤَمِّن استقراراً سياسياً مُستداماً تَوطِئَةً لنهضة اقتصادية على مساحة الوطن. فلا نمو اقتصادياً مِن دونِ اطمئنَانِ جَمِيع مُكَوِّنَاتِ المُجتمع للمُستقبل القريب والبعيد، ومن دون التطلع والعمل لإرساء قواعد صلبة للعدالة الاجتماعية والرعاية الصحيَّة.
وما قيمة الاقتصاد من دون أنسَنَتِه ومن دون تنمية متوازنة فعلاً لا قولاً، مَناطِقِيَّاً وقطاعِيَّاً، مع الحرص على الهم البيئي؟ لبنان واللبنانيون بحاجة ماسة لنموذج اقتصادي يرتكز فكرياً على ثقافة الإنتاج وعَمَلِيَّاً على الاستثمار والعمل في الاقتصاد الحقيقي، في كُلِّ ما يَتَمَتَّع بميزات تفاضلية وذات قيمة مضافة عالية، في قطاعات الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات على تَنَوُّعِها، وفي التكنولوجيا والابتكار.
تحديد الخيار والمسار
نحن بحاجة إلى تحديد الخيار والمسار، وليس الاكتفاء باتخاذ قرار يكون بمثابة خبطة إعلامية يُصار إلى إجهاضها بعد حين، هذا إذا اتَّخِذَ قَرار؛ فَلبنان وللأسف، يعيش في ظل التردُّد والإحجام عِوَضَ المُبادرة والإقدام.
لذا جهدنا، زميلي الوزير جان لوي قرداحي وأنا، لوضع تَصَوُّرٍ يُحاكي مُعاناتِنا في كافة الميادين، فطرحنا بتاريخ 11 آذار 2023 وَرَقة مُشتَرَكَة تَتَضمَّن سَلَّة مُنطَلَقَاتٍ أساسية للتعافي السياسي والاقتصادي والمالي وحتّى في العلاقات المُجتَمَعيَّة.
رُكنُ مُقتَرَحَاتِنَا عقد اجتماعي جَدِيد بَينَ مُواطِنين يحترمون خُصوصيات بعضهم بعضاً، ويعيشون في دولةٍ مَدَنِيَّةٍ يَتَساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات أمام القانون من دون تمييز، وتَسْتَعيدُ فيها القِيمُ مكانتها لدى العاملين في الحياة العامة، إذ لا يكتمل الإصلاح مِنْ دُونِ سُلَّم قِيَمٍ. قد يبدو في هذا الكلام بعض من طوباوية أو محاولة لتجاوز واقع متآكل على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والأخلاقية، لكِنَّ الحَقِيقَةَ عَكسُ ذَلكَ تماماً. فَلَو كُنَّا نَعِيش في بَلَدٍ مُكتَمِلِ المُواصفات، لما احتجنا إلى التذكير والمطالبة بالبديهيات وبالأسس التي تُبنى عليها الأوطانُ مِن قِيَم. نَحنُ في دولة تَتَحَلَّلُ وتَنهار، والحُلُولُ يُفتَرَض أن تكون جذريَّةً تَغييريَّةً وشاملةً مُختلف المجالات، بدءاً بالذهنيات السائدة وثقافة الربح السريع وتقديم الأنا على الجماعة والجماعة على الوطن. رُغمَ فَداحة الأزمة وهول الانهيارات، لا أزالُ أؤمن بأنَّ لبنان يتَمَتَّع بمُقوّمات استنهاض اقتصاده، وقبل ذلك بمُقوّمات استنهاض إنسانه.
فلا الفَقْرُ قَدَرُنا ولا الفوضى ولا الفساد. رهاننا على شبابنا، وبَينَهُم كفاءاتٌ أخلاقية عالية على قدر كفاءاتهم العِلمِيَّة، لَكِنَّ مُعظَمَ هَؤلاء مُنسَحِبون مِنَ الحياة العامة ومُنصرفون إلى بناء أنفسهم وغَدِهم، بَعدَ أَن يَئِسُوا مِنَ البَلَدِ وحُكَّامِه. أملي بأن تنجح في إعادةِ شَيْءٍ مِنَ الثقة لَهُم ليعملوا في خدمة الوطن تغييراً لواقعه الراهن.