بعد إطلاقه الاستراتيجية الوطنية للصحة 2030 (راجع “المدن”)، كانت لوزير الصحة فراس الأبيض دردشة مع عدد من الصحافيين اليوم، بهدف وضعهم بحيثياتها “كرؤية واضحة للاستجابة المنسقة للاحتياجات الصحية الطارئة، ولبناء نظام صحي قوي ومتكامل”.
في السياق، كان لـ”المدن” حديث مع الأبيض، المدرك لغياب ثقة المواطن باستراتيجية ما زالت حبراً على ورق، كاشفا أنه “بدأنا بالفعل برصد تمويل لمشاريع تطبيقية عدة تشملها الاستراتيجية، ومستعدون لحكم اللبنانيين مواطنين وصحافة على أعمالنا لا أقوالنا وحسب”.
عرض للاستراتيجية
وخلال الدردشة قام الأبيض بعرض مفصل للاستراتيجية ومقاربتها للقطاع الطبي في لبنان. والاستراتيجية هي حصيلة جهد عام من إعداد وزارة الصحة، بمشاركة أكثر من 100 خبير وجهات ضامنة وشركات تأمين ونقابات ومؤسسات صحية وجهات دولية من بينها منظمة الصحة العالمية والاتحاد الاوروبي”.
وإذا كانت الفرص تولد من الأزمات، يرى الأبيض ضرورة في البدء بتنفيذ هذه “الرؤية الواضحة اليوم لإنقاذ القطاع، بعدما نال قسطه من الأزمة الاقتصادية.
والاستراتيجية ليست “خارج النقد”. في السياق، يقول: جاهزون للنقد من قبل المعنيين بالقطاع وما نضعه بين أيديكم اليوم هو بمثابة ورقة للمناقشة.
وعرض الأبيض واقع القطاع الصحي، حيث تقلصت الميزانية الإجمالية لوزارة الصحة العامة من 486 مليون دولار سنة 2018 إلى أقل من 37 مليون دولار سنة 2022، لينخفض إجمالي الإنفاق العام على الصحة بأكثر من 40%، عدا عن تغطية اللبنانيين قرابة 50% من فاتورة استشفائهم اليوم، فيما تغطية المواطنين غالباً لا تتعدى 10% في دول أخرى، في وقت تراجعت فيه مداخيل المواطنين مقارنة بما قبل الأزمة.
كذلك، فإنّ قرابة نصف الإنفاق على القطاع الصحي اليوم يعتمد على التمويل الخارجي، فيما عدم تنسيق المشاريع المرصودة فيما بينها ضمن خطة موحدة، يخفض من وقعها الإيجابي، وهذا ما يتطلب رؤية واضحة للعمل.
وأهم بنود الاستراتيجية، تعزيز حوكمة القطاع الصحي، فالإدارة السليمة للمؤسسات، هي إحدى مسلمات النجاح، وكذلك الانتقال من نظام صحي قائم على الاستشفاء، إلى نظام صحي قائم على الرعاية الأولية، وهو ما يوفر بدوره الكلفة الباهظة للاستشفاء على المواطن.
ويستند الأبيض إلى إحدى الدراسات التي أشارت الى أن فحص الثدي المبكر، يوفر مع كل دولار في سبيل الوقاية، 18 دولاراً للعلاج، لافتا إلى أنه مع تراجع قدرة اللبنانيين الاستشفائية، واتجاهم للرعاية الأولية بنسبة مرتفعة ( 20% قبل الأزمة وصولا لحوالى 50% اليوم)، صار لزاماً علينا، ضمان جودة الرعاية الأولية التي تقدم لهم.
وعن الاستثمار في تعزيز نظم الصحة العامة والتأهب للطوارئ مثل انتشار كورونا والكوليرا، كشف عن مشروع لإعادة افتتاح المختبر المركزي، في حين شدد على التحول الرقمي كإجراء أساسي لتعزيز الشفافية والمساءلة واستعادة الثقة في المؤسسات العامة، كاشفا عن استحداث 5 برامج أخرى غير MediTrack قريباً.
التمويل والكوادر الطبية
أما الاستجابة للنقص الحاصل في القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية، فتبقى التحدي الأكبر للنظام الصحي، وهو ما يستوجب دق ناقوس الخطر لناحية هجرة الأطباء اللبنانيين والعاملين/ات في مجال التمريض.
في السياق، لا ينكر الأبيض أن الوضع ليس بأحسن أحواله اليوم، وهناك أقسام مستشفيات أقفلت بالكامل، ونوعية عمليات بات أطباؤها المقيمون في لبنان قلة، وهو ما يتطلب إعادة جذب الأطباء والممرضين للقيام بالقطاع، وذلك عبر رفع التعرفة لهم، حيث أنهم لم يستحصلوا على مستحقاتهم من العمليات المغطاة من الوزارة منذ كانون الثاني 2021، وتأمين المستلزمات الطبية لعملياتهم الجراحية، وتوجيه الأطباء نحو التخصصات الأكثر حاجة، وضمان بيئة عمل .
أما على صعيد التمويل، فلفت إلى مقاربة جديدة تنطلق من الأزمة الحالية، “كنا قد بدأناها مع ترشيد الدعم عن أدوية تعتبر كمالية لصالح أدوية مزمنة ومستعصية”.
ومن الأمثلة الأخرى على الترشيد، أوضح أنه ما “عدنا نستطيع الإبقاء على تعدد الجهات الضامنة بحلته السابقة، والذي يرهق إدارات المستشفيات، التي تستحدث قسما لكل جهة ضامنة، وهو ما يرفع من الفاتورة الاستشفائية على المواطن ولو بشكل غير مباشر”.
كسب ثقة الممولين والمواطنين
وفي حديثه لـ”المدن”، حول كسب ثقة الممولين. يقول الأبيض “الأموال تأتي بناء على التطبيق”. وعند شروعنا بمشروع الرعاية الصحية الأولية منذ 4 ِأشهر، بدأنا برصد التمويل الخارجي له. كرصد بقيمة 20 مليون دولار من البنك الدولي، و5 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي، عدا عن رصد تمويل آخر لإعادة فتح المختبر المركزي، وسيكون لنا الاثنين جلسة مع الجهات المانحة، التي أبدت تجاوباً ممتازاً مع الاستراتيجية.
وليست المرة الأولى التي ترصد فيها أموال للمختبر المركزي، نسأل الأبيض عما إذا كان التمويل هذه المرة سيلقى مصير تمويلات سابقة، ليجيب مؤكداً “إنني لا ألوم المواطن أبداً لانعدام ثقته باستراتيجية لم ير تطبيقها بعد، لكننا نضعها بين يديه بكل شفافية، وبمجرد نشرنا لها وضعنا أنفسنا تحت الضغط والمحاسبة الإعلامية والشعبية، وهو ضغط مقصود، إدراكاً منا أنه سيشكل حافزاً لتسريع تطبيق الاستراتيجية”.
ولا ميزانية إجمالية رصدت للاستراتيجية، في السياق يكشف الأبيض عما يسميه تمويلاً للمشاريع بطريقة متدرجة بطريقة الـUnlocking بمعنى أنه كلما انتهى تنفيذ مشروع، يفتح أبواب تمويل المشروع الذي يليه.
ونسأله عن استعداد مراكز الرعاية الأولية لتحول القطاع الطبي للرعاية الاولية، ليشير إلى توزيعها الجيد جغرافياً، لكن المشكلة تكمن في التفاوت الكبير بينها لناحية مستوى الخدمة، فالمراكز التي لا تتلقى دعماً خارجياً تعاني صعوبة في الاستمرارية، وهو ما تعالجه الخطة بالتحديد.
لم تتطرق الخطة إلى إنشاء مصانع أدوية جينريك لبنانية. في السياق، يوضح الأبيض أن كلفة انشاء مصنع للدواء تتراوح بين 30 مليون والـ100 مليون دولار، وفي الظروف الحالية من الصعب جذب هكذا استثمارات، لكنّ ما يهمّ ليس عدد المصانع بل سعتها الانتاجية، وهناك 3 مصانع كبرى قيد الإنشاء، ستغطي مع المصانع الحالية السوق المحلية بشكل كبير، سيما وأنه ليس المطلوب بالضرورة أن تحصر أدوية الجنريك بالصناعة المحلية بالكامل -ولو أن الأولوية للصناعة الوطنية- فالنقص الذي لا مهرب منه يغطيه الاستيراد، شرط الموازنة بين السعر المنخفض للدواء ونوعيته الجيدة.