الأزمة المصرفية والودائع

بين كل فترة وأخرى تحصل أزمات مصرفية حادة في الدول المتقدمة كما في النامية والناشئة كلبنان الذي يعاني اليوم من أزمة قاسية ترتبط فيها السياسة بالمال والنقد. تكون الأزمات المصرفية قاسية في الدول التي تكون فيها المصارف تعمل ظاهريا بفعالية وانتاجية وشفافية وتحوز على ثقة المواطن. تكون الأزمة قاسية عندما يتفاجأ بها المجتمع، فلا تسمح للمواطن بتحضير نفسه لها كان مودعا أو مقترضا. عندما تحصل الأزمة، يتدافع المواطنون لسحب ودائعهم وهنا تكمن المشكلة ويظهر عجز النظام.

كنا نصف القطاع المصرفي اللبناني بجوهرة القطاعات المصرفية ونموذج للقطاعات الفاعلة. حصلت أزمات كبرى وقاسية في الولايات المتحدة ومختلف دول أوروبا كما في آسيا وأميركا اللاتينية وغيرها، وكان القطاع المصرفي اللبناني صلبا بل مضرب مثل ظاهري في حسن الادارة والاداء والفعالية. بين ليلة وضحاها سقط كل شيء. لا نريد أن نقول أن كل المؤشرات كانت ايجابية، حتما لا اذ من كان يراقب كان يتوقع حصول مشاكل. لكن السقوط بهذا الحجم وهذه الدرجة كان مفاجئا حتى للمصرفيين أنفسهم. مشكلة القطاع المصرفي اللبناني انه دفع ثمن سوء ادارة القطاع العام وتهور بعض القطاع الخاص، وكانت النتيجة اذاء المواطن كما لم يتوقعه أحد.

نعود لأزمتنا المصرفية مع منح جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 2022 للثلاثي «بن برنانكي»، «دوغلاس دياموند» و»فيليب ديبفيغ» حيث عالجوا عبر مسيرتهم المواضيع المصرفية وعمل المصارف والأزمات وحصولها. فسروا بوضوح دقة العمل المصرفي وأهمية بقاء سلامة النظام المصرفي قائمة في كل الظروف. يقول الأساتذة أن هنالك موضوعين في ما يخص العمل المصرفي يتطلبان المعالجات السريعة والكاملة:

أولا: من واجب ادارات المصارف كما كافة أجهزة الرقابة العامة والخاصة اعتماد السياسات الوقائية أي منع المصارف من الوصول الى أوضاع التعثر، خاصة عدم تسديد الودائع لأصحابها. تركت المصارف اللبنانية تصل الى الأوضاع الخطرة التي وصلت اليها بالرغم من وجود رقابة خاصة داخلية وخارجية ووجود رقابة مصرف لبنان حيث هنالك جهاز كبير فاعل يهدف اليها. تركت المصارف تصل الى السقوط ربما بسبب الاهمال أو عدم المعرفة أو أن حجم المشكلة كان أكبر بكثير من الطاقات والامكانيات المتوافرة. هذا لم يحصل فقط في لبنان، بل حصل أيضا مرارا في الغرب وما أزمة 2008 في الولايات المتحدة الا مشابهة مع سقوط مصارف مهمة كانت تعتبر مضرب مثل في العمل والثقة.

ثانيا: هنالك دور كبير للقطاع الخاص كما للعام عبر التعاون سوية لمنع سقوط كل المصارف أو أبرزها دفعة واحدة. النجاح في هذا الدور أسهل، وفي الولايات المتحدة تحديدا لم تسقط كل المصارف وفي لبنان هنالك جهود كبرى تبذل لمنع السقوط الجماعي النهائي. ما زال هنالك أمل في تخفيف الخسائر بالرغم من وجود خلافات جدية حول حجمها وكيفية توزيعها على جميع المسؤولين عن الأزمة. في القطاع المصرفي، تكمن المشكلة في وجود خطر جماعي أي عندما تعزف «موسيقى التانغو» يرقص الجميع وعندما تتوقف يصطدم المشاركون بعضهم ببعض وتحصل أضرار موجعة.

في معظم الدول المتطورة مصرفيا، ينجح الجميع في الموضوع الثاني خاصة أجهزة الرقابة وتفشل الأنظمة في العمليات الوقائية ربما بسبب الموسيقى التي تؤثر ايجابا على مشاعر الجميع. من يدفع الثمن؟ المواطن مباشرة عبر ودائعه والمواطن أيضا بطريقة غير مباشرة عبر تدخل وزارة المالية للانقاذ من جيوب المواطنين أي من ضرائبهم. لا شك أن وجود مصارف تجارية يلبي حاجات واضحة وهي نقل أموال المدخرين الى المستثمرين وبالتالي المصرف هو الوسيط. هنالك مشكلة آجال تحصل وهي أن المودع يفضل الآجال القصيرة بينما المستثمر يريد الآجال الطويلة لاستثماراته. من الضروري أن يكون الوسيط نزيه وشفاف وفاعل ويجذب الثقة والا تعطل عمل الجميع وهذا ما يحصل في لبنان.

دور المصرف هو ضمان سلامة الودائع مباشرة وعبر مؤسسة الضمان التي تلعب دورا مهما في تأمين سلامة العلاقة بين المودع والمصرف. مؤسسة الضمان تغطي الودائع المتوسطة وما دون كي لا تتوجه أكثرية المودعين الى المصارف لسحب الأموال عند أول هزة. يضمن المصرف اذاً مباشرة أو عبر مؤسسة الضمان سلامة أكثرية الودائع. من ناحية المقترضين، دور المصارف هو تحصيل الديون بهدوء وبمراعاة لأوضاعهم كي يسددوا الأموال كاملة ودون احداث خضات كبيرة في الأسواق. في معظم الأحيان تعمل المصارف بشكل جيد مما يقوي ثقة المجتمع بها وتجعلها تلعب الدور المهم الذي وجدت من أجله.

سقوط المصارف يسبب الأزمات الاقتصادية الحادة ولا ينتج عنها كما يعتقد البعض. سقوط النظام المصرفي يضرب التواصل بين المدخر والمستثمر وبالتالي يعطل الحركة الاقتصادية. واجب وزارة المال لعب دور المقرض النهائي ليس للجميع وانما للمصارف القابلة للحياة. هنالك دائما ضرورة للاصلاح تكمن في تقوية مؤسسة ضمان الودائع ورفع السقوف كما عبر فرض رؤوس أموال أعلى على المصارف تقوية لها. مجرد وجود ضمانات مباشرة أو غير مباشرة بشأن الودائع يرفع مستوى الثقة ويطمئن المواطن وبالتالي لا يحاول سحب أمواله من المصرف.
اذا بقيت الثقة ضعيفة في النظام المصرفي نتيجة التقصير والاهمال والأخطاء، سيزداد حجم القطاع المالي الموازي غير الخاضع للرقابة والتنظيم وبالتالي تزداد خطورة كل العمليات الاقتصادية في الدولة. هنالك مؤشرات سلبية أخرى مهمة وهو وجود أموال خارج النظامين الرسمي وغير الرسمي أي عندما يُبقي المواطن كل أمواله خارج الأنظمة أي في منزله وعمله مما يساهم في تعطيل الدورة الاقتصادية العامة بل التسبب في تخفيف حجم الاقتصاد.

تبقى رقابة القطاع المصرفي مهمة جدا لمنع سوء التصرف واستغلال الضمانات، وبالتالي تجنب الرقابة حصول مخاطرات مصرفية غير مدروسة معتمدة على ضمانات أهدافها مختلفة.

مصدراللواء - الدكتور لويس حبيقة
المادة السابقةبين ترسيم الحدود البحرية والاقتصاد والصندوق السيادي
المقالة القادمةما مصير الدولارات المخبّأة في المنازل؟