لا تنبثق الأزمة المصرفية الراهنة من حالة قوة قاهرة غير متوقعة أو حتمية، أو من مصدر خارجي عن النظام المصرفي، بل تكمن جذورها في مجموعة من القرارات الخاطئة والمتعمدَة، التي اتُّخذت بعلم وإدراك وعن سابق معرفة، من قبل صُنّاع القرار على مستوى المصارف التجارية ومصرف لبنان (BDL) والدولة. وقد أدت هذه القرارات إلى انخفاض حاد في سيولة العملات الأجنبية، وأزمة ملاءة في مصرف لبنان، وكذلك في المصارف التجارية. وبالتالي، فإن الأزمة المصرفية الحالية ليست ذات طبيعة «نظامية».
علاوة على ذلك، لم يصف الصندوق الدولي (IMF) في جميع تقاريره الرسمية المنشورة منذ عام 2019 الأزمة المصرفية في لبنان بأنها «نظامية». وقد أوضح في تقريره بموجب المادة الرابعة (حزيران 2023، الصفحة 18) أن السلطات اللبنانية هي من تبنت هذا التوصيف.
قرارات خاطئة ارتكبتها المصارف:
– إنتهاك مبادئ الحوكمة الأساسية لإدارة المخاطر، لا سيما قاعدة التعرض لمدين واحد والمعايير الاحترازية الدولية.
– إيداع حصة مفرطة من سيولتها بالعملات الأجنبية في مصرف لبنان (88 مليار دولار من مجمل الودائع) أي أكثر من 300% من إجمالي رؤوس أموالها، متجاوزة معدل الـ 20% المحدد، بموجب القرار رقم 311/2012 الصادر عن مصرف لبنان.
– اكتتاب 15 مليار دولار في سندات «اليوروبوندز»، في حين أن الحد المسموح به بموجب نفس القرار والمبادئ المصرفية كان حوالى 4 مليارات دولار.
– تحويل ما يقارب 10 مليارات دولار إلى الخارج، بين تشرين الأول 2019 ونهاية عام 2022، بشكل انتقائي وتمييزي، مما حرمها من الحد الأدنى من مستوى السيولة الذي تتطلبه المعايير الدولية (BASEL)، وجعلها عاجزة عن تلبية الحد الأدنى من احتياجات مودعيها ووضعها في حالة شبيهة بالتوقف عن السداد.
قرارات خاطئة ارتكبتها الدولة:
– تسامحها مع عجزين مزمنين في الموازنة وفي ميزان المدفوعات منذ عام 2011 ، ويعود ذلك الى الفساد والهدر وسوء الادارة في الإنفاق العام كلفته أكثر من 40 مليار دولار.
– تخلفها عن سداد اليوروبوندز، مما جعل لبنان في حالة تخلف سيادي، وساهم في تدهور 98% في سعر الصرف.
– تجاوز إجمالي الدين العام 220% من الناتج المحلي، ويشمل ذلك ما يوازي 60 مليار دولار سندات خزينة و32 مليار دولار سندات يوروبوندز، بالإضافة إلى سلفة 28 مليار دولار لكهرباء لبنان و16.5 مليار دولار مستحقة لمصرف لبنان.
قرارات خاطئة ارتكبها مصرف لبنان:
– تثبيت سعر الصرف 1507.5 ليرة لبنانية للدولار بشكل مصطنع، مما كلف أكثر من 20 مليار دولار من الاحتياطات بالعملات الأجنبية جاءت، اعتبارا من عام 2013، من ودائع المصارف في مصرف لبنان، أي من أموال المودعين.
– إستخدام نظامه الداخلي للمقاصة لعمليات التحويل بين الليرة اللبنانية والدولار، بدلاً من إجرائها عبر مصارفه المراسلة في الخارج، مما خلق ظاهرة «الدولار اللبناني» أو «اللولار».
– إقراض الدولة مباشرة 16.5 مليار دولار، مخالفا قانون النقد والتسليف ( المواد 88 إلى 91)، وبشكل غير مباشر من خلال اكتتابه ما يوازي 30 مليار دولار سندات خزينة بالليرة اللبنانية و5 مليارات دولار سندات يوروبوندز، مع علمه المسبق بالعجز السنوي والمزمن في موازنة الدولة.
-“هندسات مالية» كلفت حوالى 20 مليار دولار، وتسببت برفع أسعار الفائدة، مما ضرب الاستثمار و معدلات النمو.
– دعم أسعار المواد الغذائية والأدوية والمعدات الطبية والوقود دون رقابة، بكلفة بلغت أكثر من 10 مليار دولار منذ عام 2020.
– سوء الرقابة على القطاع الصرفي، حيث سمح للمصارف بإيداع أكثر من 300% من رؤوس أموال ما فيها بالعملات الأجنبية لديه، مخالفا قراره رقم 311/2012.
– السماح بسداد القروض بسعر 1507.5 ليرة لبنانية للدولار.
– أطلاق نظام «صيرفة» الذي كلّف أيضاً مليارات الدولارات.
الأزمة المصرفية ليست نظامية، بل هي نتيجة سلسلة أخطاء هيكلية، وقرارات متعمدة خالفت قواعد الحوكمة الرشيدة والادارة المصرفية السليمة، وانتهاك التعاميم والقوانين. إلإصرار على توصيف الأزمة بالنظامية، يهدف لتبرير قرارات أو قوانين قد تكون مجحفة وغير عادلة بحق المودعين ،وتبرئة ذمة الدولة ومصرف لبنان والمصارف من المسؤولية عن نشوئها، وبخاصة عن معالجتها، مما يؤدي إلى إضعاف سبل انصاف المودعين، وإضفاء الشرعية على إفلات المسببين الرئيسيين في انهيار النظام المالي اللبناني من العقاب، مما يعوق الثقة و النهوض الاقتصادي.
لو لم ترتكب تلك الأخطاء المتعمدة، والمتخذة عن علم وسابق معرفة ، ولو تم الالتزام بالقواعد الاحترازية الأساسية، لما واجهنا أبداً أزمة مصرفية أو أزمة اقتصادية، ولاستمر المودعون في التصرف بأموالهم بشكل طبيعي!



