الأزمة لم تتحوّل إلى فرصة: الاستثمار الصناعي يتقلّص

يمثّل استيراد الآلات الصناعية مؤشّراً قوياً على زيادة القدرة الإنتاجية في القطاع الصناعي، والرغبة في تطويرها. فزيادة الاستثمار في القطاع سيكون مبنياً على فرصة يراها الصناعيون في اتساع السوق وانخفاض كلفة الإنتاج. لكن رغم أن الفرص تكون واضحة أيام النمو، فإنه أيام الأزمات تكون أوضح. ففي كثير من الأزمات كان انهيار سعر صرف العملة المحلية سبباً في انتعاش القطاع الصناعي، لكنه في لبنان خلافاً لهذه القاعدة، لم تشهد الصناعة انتعاشاً ملحوظاً، بل ربما سجّلت خسائر إضافية في مصانعها. ويُعتقد على نطاق واسع، أن الأمر متصل بغياب سياسات صناعية واضحة المعالم والأهداف، فلم تتمكن الصناعة من منافسة التجارة على الدعم الذي ضخّه مصرف لبنان. غياب السياسات الصناعية كان أحد أهم أسباب التراجع السريع في الاستثمارات الصناعية أثناء الأزمة. إذ أدّى ذلك إلى ضياع فرصة انخفاض قيمة العملة، وفرصة تركيز أعلى في استثمارات منتجة تخلق فرص العمل وتنتج سلعاً يحتاجها السوق المحلية ويمكن تصديرها أيضاً. الفرصة أصبحت عبئاً على المستثمرين الصناعيين.

نظرياً، إن التراجع في قيمة العملة المحليّة، يحسّن القدرة التنافسية للبضائع المنتجة محلياً في الأسواق الخارجية، فتنخفض أكلاف الإنتاج المحلية مثل العمل والأرض ما يؤدي إلى انخفاض كلفة الإنتاج بشكل عام، ويسهم في هامش مهم لخفض أسعار المنتجات النهائية في الأسواق. هكذا تصبح هذه المنتجات ذات تنافسية عالية مقارنة مع المنتجات الآتية من مصادر أخرى. إلا أن هذا الأمر لم يحدث، ويعود ذلك إلى عدّة أسباب أهمّها: التراجع في قيمة العملة أدّى إلى انهيار قدرة الدولة على توليد الطاقة الكهربائية ما ترك المصانع في لبنان فريسة لتوليد الطاقة ذاتياً بأكلاف مرتفعة. ومع انهيار المصارف، لم يعد لدى المصانع، ولا للقطاعات الأخرى أيضاً، قنوات للتمويل تسهّل عمله وتخفّض مخاطر الاستثمار فيه.

 

من أبرز المؤشرات على هذا الأمر، استيراد الآلات الصناعية في لبنان. فمنذ بداية الأزمة في لبنان تراجع استيراد الآلات الصناعية بشكل حادّ، إذ انخفض بين عامَي 2019 و2021 بنحو 41%. عملياً، صار الاستثمار في القطاع الصناعي محدوداً جداً بسبب المعاناة التي فرضها انتشار جائحة كورونا، والانهيار النقدي والمصرفي. وهذا الأمر استمر بشكل نسبي، لغاية نهاية شهر تموز من عام 2022 إذ بلغ استيراد الآلات الصناعية نحو 87.36 مليون دولار فقط.

العامل الأهم لتراجع إعادة الاستثمار في القطاع الصناعي هو تراجع قيمة الليرة بشكل كبير، وهي مفارقة علماً أن هذا العامل كان يجب أن يكون محفّزاً للقطاع بدلاً من أن يكون عائقاً. لكن لماذا أصبح كذلك؟ إن استيراد الآلات يحتاج إلى دولارات، أي أن كلفتها بالنسبة إلى العملة المحلية ارتفعت بقدر ارتفاع قيمة الدولار مقابل الليرة اللبنانية. وإن لم يرَ المستثمر جدوى من استيراد الآلات، بسبب تردّي أوضاع القطاع وارتفاع مخاطره، يُصبح قرار عدم الاستثمار فيها سهلاً مع ارتفاع كلفتها بالنسبة إلى العملة المحليّة.

المشكلة الإضافية التي حلّت على القطاع الصناعي هي انهيار القطاع المصرفي، الذي كان يمثّل مصدراً لتمويل الصناعة في البلد. ومع العلم أن هذا التمويل لم يكن يشكّل حصّة وازنة من محفظة التسليفات المصرفية، إلا أنه كان يسهم في تأمين حركة اقتصادية معينة في القطاع. إلا أن محفظة التسليفات الصناعية انخفضت بشكل كبير منذ بداية الأزمة من حوالى 9 آلاف مليار ليرة في نهاية عام 2019 إلى نحو 5 آلاف مليار ليرة في نهاية عام 2021. ويعود هذا الأمر إلى توقّف القطاع المصرفي عن الإقراض بسبب الخسائر الكبيرة التي يعاني منها وأزمة السيولة التي نتجت من ذلك. أهمية التمويل الائتماني تبرز في خفض المخاطر على المستثمرين، وذلك من خلال عدم تحمّل المالك مخاطر استثماره كلّها. عملياً، فقد القطاع الصناعي مصدر تمويله، كما حصل مع معظم القطاعات الأخرى، ولم يعد هناك مجالات لتلافي المخاطر، التي زادتها الأزمة، أو حتى التخفيف من حجمها على المستثمرين.
مصدرجريدة الأخبار
المادة السابقة1.4 مليار دولار هو الناتج الزراعي في عام 2020
المقالة القادمة“السرفيس” بـ80 ألف!