الأزمة مهّدت أرضاً خصبة للجرائم المالية

ليس تفصيلاً أن تشتبه دول أوروبية في قيام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومقرّبين منه بإختلاس أموال عامة والتورط بتبييض الأموال ما بين العام 2002 و2021، وأن تعمد إلى تجميد أصول عقارية وحسابات مصرفية مرتبطة بهم تبلغ قيمتها 120 مليون يورو (نحو 130 مليون دولار). ففي هذه الفترة التي تمت فيها هذه العمليات أقر مجلس النواب اللبناني (2015) قانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال (رقم 44/2015)، وفيه حوالى 20 جريمة تدخل في إطار هذا العنوان. وفي العام 2021 أقرّت الولايات المتحدة الأميركية أيضاً تعديلات التشريعات الجديدة على قانون مكافحة غسل الأموال لعام 2020 الذي سنّه الكونغرس الاميركي كجزء من قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2021، والذي تضمن مجموعة إلتزامات جديدة لمكافحة غسل الاموال AML على البنوك والمؤسسات المالية الاخرى.

استطاع سلامة وشركاه النفاذ بتجاوزاتهم في»الفترة الذهبية» للقطاع المصرفي اللبناني والحرص الرسمي على الإلتزام بالقوانين المالية الدولية، وفي ظل الجهد المتزايد لوزارة الخزانة الاميركية على السيطرة على هذه الجرائم، ما يعني أن مساحتها (تبييض الاموال وتمويل الارهاب) يمكن أن تكون أكبر مع إنهيار النظام المصرفي اللبناني وعمليات تهريب الاموال التي حصلت للنافذين منذ العام 2019.

قد يكون بيان وفد وزارة الخزانة الاميركية الذي زار لبنان في مطلع شهر آذار من العام الحالي، أبرز دليل على القلق الدولي من توسع هذه المساحة في ظل الأزمة المالية المستفحلة، إذ ركّز الوفد بعد لقائه المسؤولين اللبنانيين على «ضرورة التعاون بين وزارة الخزانة والحكومة اللبنانية في متابعة الأوضاع المصرفية، ولا سيما المسائل المتعلقة بتبييض الاموال ومكافحة الفساد والمفاوضات القائمة مع صندوق النقد ووضع القطاع المصرفي».

تعاظم هذا القلق الدولي سببه نقطة أساسية هي تحول الاقتصاد اللبناني إلى إقتصاد الكاش الذي قد يخلق بيئة ملائمة لعمليات تبييض الاموال. وفي الميزان القانوني هذا القلق مشروع كما يشرح المحامي الدكتور بول مرقص (رئيس مؤسسة justicia الحقوقية) لـ»نداء الوطن»، مبدياً خشيته من «الاعتماد الكبير على الدفع النقدي من قبل اللبنانيين إلى أن يصبح مجتمع كاش، وهذا يناقض تماماً قواعد مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب التي دأبت المصارف اللبنانية على التمرس في تطبيقها منذ أواسط التسعيينات، مروراً بقانون مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب في 20 نيسان 2001، وصولاً إلى القانون 44/2015»، ويشير إلى أن «حركة بيع وشراء الشيكات في السوق اللبنانية تزيد من حدة التعامل النقدي وتجعل دوائر الإمتثال في المصارف عاجزة عن تتبع إقتفاء عمليات تبييض الاموال، وتتيح للمبيّضين التفلت من أي مسؤولية بمجرد أن التعامل النقدي أصبح متاحاً لهم بحرية».

ويرى أنه «إذا إستمر هذا الوضع فسيزيد من حذر البنوك المراسلة وإتجاهها إلى التخفيف من التعاملات مع المصارف اللبنانية وصولاً إلى قطعها كما حصل في العراق مثلاً»، معتبرا أنه «لا مصلحة أبداً للمجتمع الدولي في تخبط لبنان في أزمته المالية والنقدية والاقتصادية الحادة، بسبب تأثيراتها السلبية على مجمل قواعد الامتثال والممارسات الدولية الفضلى».

من الناحية القانونية أيضاً يفسر خبير في دائرة الامتثال في أحد المصارف اللبنانية لـ»نداء الوطن»، أن «عمليات تبييض الاموال هي جريمة تبعية تمتد من جريمة أصلية ناتجة عن تجارة المخدرات مثلاً أو إختلاس أموال عامة وخاصة وينتج عنها أموال نقدية توضع في المصارف لتبييضها»، موضحاً أنه «حين تتحول أنظمة الدفع إلى الكاش يمكن عندها الخلط ما بين الأموال الناتجة عن عمليات مشروعة وتلك الناتجة عن عمليات غير مشروعة، مما يعني أن إمكانية تبييض الاموال باتت أكبر مما يزيد التحدي على المصارف».

ويشرح أن «عمليات بيع الشيكات التي راجت منذ بداية الأزمة هي إحدى الطرق لتبييض الأموال، علما أن عمليات التسديد لقروض عبر الشيكات المصرفية حصلت من قبل مودعين مصدر أموالهم شرعي، لكن هذا لا ينفي إمكانية حصول «تلغيم» لهذه الشيكات وهنا دور المصارف في التأكد، من خلال نظام «إعرف عميلك» وحركة حسابات العملاء، والتدقيق فيها ودوائر الامتثال في المصارف تقوم بواجبها حتى الآن». ويختم: «ليس من المفروض أن يستمر التداول بالكاش ولكن طالما ان الازمة موجودة فسيستمر، والحل هو سياسي وعبر التوقيع مع صندوق النقد كي يعود الاقتصاد إلى دورته الطبيعية التي كانت قبل الازمة».

يصف وزير الدولة السابق لشؤون الاستثمار والتكنولوجيا عادل أفيوني «عودة لبنان إلى إقتصاد الكاش بالظاهرة الخطيرة»، شارحا لـ»نداء الوطن» أن «من مفاعيل هذه العودة هو إزدياد عمليات تبييض الاموال وإنعدام الشفافية لأنه من الصعب رصد مخالفات أو إستيفاء الدولة للضرائب المتوجبة»، لافتاً إلى أن ذلك «يحوّل البلد إلى مناخ جاذب لعمليات تبييض الاموال ولكل من يريد العمل فيها أو القيام بعمليات تمويل الارهاب، وهذا أمر خطير لأنه يسيء لسمعة البلد ولمحاولة إستعادة دوره وإستقطاب مستثمرين».

يضيف: «لا يجب أن تكون الازمة المالية باباً لتحول البلد إلى نظام خارج الرقابة والمعايير المالية العالمية، أو إلى بؤرة لإستقطاب الفاسدين ومبيضي الاموال، وهذا من نتائج إنهيار القطاع المصرفي والمصارف والخدمات المصرفية»، موضحاً أن «سمعة القطاع المصرفي هي في الحضيض لأن هناك بلداً تبخرت فيه أكثر من 100 مليار دولار، والمصارف لا يمكنها إصدار ميزانيات مُدقق فيها لأن كل أرقامها مغلوطة، وهي تتجاهل مشكلة المودعين ومنذ عامين ونصف تتخبط في أزمة من دون أي إجراءات أو خطط لمعالجتها»، ويرى أن «تبييض الاموال يُفاقم من سوء السمعة لأن الركيزة الاساسية لأي قطاع مصرفي في العالم هي الثقة بالمصارف والهيئات الرقابية، وللأسف في عامين فقط دمرنا عشرات السنوات من السمعة الطيبة والثقة بالقطاع وعلينا البدء من الصفر وهذا يلزمه الكثير من الوقت»، داعياً إلى «البناء بدم جديد وهيئات رقابية جديدة ومصارف جديدة وأسماء جديدة، لأنه لا يمكن الوثوق بالقطاع المصرفي في لبنان بعد التصرفات أو النهج الذي إتبعه».

يلفت أفيوني إلى أنه «في الوقت الذي تستخدم فيه أغلب دول العالم البطاقات الائتمانية ووسائل الدفع الالكترونية في عمليات الشراء والبيع كونها تزيد من إنتاجية الاقتصاد والشفافية، لبنان يتجه في الاتجاه المعاكس، وإنهيار القطاع المصرفي أدى إلى إنهيار الخدمات المصرفية وتراجع إستخدام المصارف من قبل المواطن اللبناني إلا للضرورة، لتجنب الرسوم العالية جدا التي تتقاضاها لتعوض عن خساراتها». ويختم: «هذه ظاهرة خطيرة جدا وإنعكاس هذا الامر يكون على الاقتصاد لأن الدفع عبر الوسائل الالكترونية يؤمن السهولة والانجاز السريع والشفافية خصوصاً للمصدرين».

على ضفة المصارف يوضح رئيس مركز الابحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل لـ»نداء الوطن» أنه «صحيح أننا في أزمة عمرها عامان ونصف لكن المصارف اللبنانية لا يزال لديها دوائر إمتثال، وهي تطبق المعايير الدولية وتعاميم وإجراءات مصرف لبنان لمكافحة الارهاب وتبييض الاموال، وهناك تواصل مع الخزينة الاميركية وجمعية المصارف وهذا موضوع أساسي للبنان والقطاع المصرفي». ويشدد على أن «المصارف حريصة على إستمرار إمتثالها لأن ذلك يؤثر على العلاقات مع المصارف المراسلة وهي إحدى وسائل التواصل مع النظام المالي العالمي، وزيارة وفد وزارة الخزانة الاميركية الاخير إلى لبنان يصب في هذا الإتجاه»، لافتاً إلى أن «القطاع المصرفي غير مسؤول عن هذه العمليات لأنه يطبق معايير الامتثال العالمية لمكافحة هذه المخالفات، وكان متيقظاً لعدم حصول هذه العمليات عبر الشيكات المصرفية التي راجت في بداية الازمة كأحد أنواع الدفع في عمليات الشراء والمبيع».

ويختم: «أي إقتصاد يتجه إلى الكاش يزيد إحتمالات عمليات تبييض الاموال وتمويل الارهاب، ولبنان للأسف يسير بعكس التوجه العالمي».

مصدرنداء الوطن - باسمة عطوي
المادة السابقة“إقتصاد الكاش” يفاقم تعقيدات حل الأزمة
المقالة القادمةهل يستعيد مرفأ بيروت عافيته ودوره المحوري في شرق المتوسط؟