اعتاد اللبنانيون منذ بداية الانهيار المالي على معدّلات التضخّم المرتفعة، الناتجة عن تدهور سعر صرف الليرة، والذي أدّى إلى ارتفاع ثمن المستوردات المسعّرة بالدولار الأميركي. لكنّ مؤشّر أسعار المستهلك، الذي تنشره إدارة الإحصاء المركزي شهريًّا، أظهر ارتفاعاً قياسياً في معدلات التضخّم لغاية شهر حزيران الماضي، وبأرقام لم يألفها اللبنانيون منذ بداية الأزمة. فلغاية شهر حزيران الماضي، ارتفع معدّل التضخّم السنوي إلى حدود 210%، وهي أعلى نسبة يسجّلها هذه المعدّل منذ نهاية الحرب الأهليّة. ولفهم خطورة الرقم، تكفي الإشارة إلى أن نسبة التضخّم هذه تعني أن أسعار السوق تضاعفت بحدود 3.1 مرّات لغاية شهر حزيران، مقارنة بالفترة المماثلة تمامًا من العام الماضي، ما يمثّل تطوّراً خطيراً وغير مسبوق منذ بدء تدهور سعر صرف الليرة.
تقاطع ثلاثة عوامل
من الناحية العمليّة، يبدو من الواضح أن ارتفاع معدلات التضخّم بهذا الشكل لأوّل مرّة، يرتبط بتقاطع ثلاثة عوامل في الوقت نفسه:
– العامل الأوّل: استمرار الانخفاض في سعر صرف الليرة اللبنانيّة. فمنذ بداية شهر حزيران من العام الماضي، ولغاية أوّل شهر حزيران من هذا العام، ارتفعت قيمة الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة من 12,854 ليرة إلى 29,787 ليرة، ما يعني أنّ قيمة الدولار ارتفعت بنسبة 131% بين الفترتين. ولهذا السبب، كان من الطبيعي أن تتضخّم أسعار السلع المستوردة بهذه النسبة في شهر حزيران الماضي، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي.
– العامل الثاني: رفع الدعم عن المحروقات، وعلى مراحل، منذ بداية صيف العام الماضي. وكما هو معلوم، تدخل المحروقات في كلفة إنتاج كافة الخدمات والسلع في السوق المحليّة، ما يعني أن ارتفاع كلفة المحروقات في الدورة الإنتاجيّة ينعكس تلقائيًّا على شكل زيادات سريعة في أسعار السوق بشكل عام. ولهذا السبب تحديدًا، ارتفعت بقسوة معدلات التضخّم السنويّة في شهر حزيران الماضي، والتي تقارن أسعار السوق بالأسعار الرائجة قبل عام واحد تمامًا.
– العامل الثالث: معدلات التضخّم العالميّة التي بدأت بالارتفاع منذ أشهر، لتلامس حدود 9.1% في شهر حزيران الماضي. مع الإشارة إلى أنّ ارتفاع الأسعار تركّز تحديدًا على المحروقات والسلع الغذائيّة وسائر المواد الأساسيّة، التي تشكّل جزءاً أساسياً من سلّة لبنان الاستهلاكيّة. مع ارتفاع الأسعار الحاصل على مستوى العالم، كان من الطبيعي أن ترتفع بالتوازي أسعار هذه السلع محليًّا.
هكذا، تقاطعت العوامل الثلاثة معًا خلال فترة قصيرة جدًّا، لتنتج أعلى ارتفاع في أسعار السوق، وهو ما انعكس اليوم في أرقام إدارة الاحصاء المركزي الأخيرة.
أبواب الإنفاق وارتفاعات الأسعار
أثر هذه العوامل الثلاثة، انعكس في نوعيّة السلع والخدمات التي ارتفعت أسعارها، والتي يبوّب المؤشّر نسبة الارتفاع الحاصل في أسعار كلٍّ منها. فعلى سبيل المثال، أثر رفع الدعم عن المحروقات ظهر سريعًا في كلفة النقل، والتي ارتفعت بنسبة 462% بين حزيران الماضي وحزيران من العام السابق، كما ارتفعت كلفة الكهرباء والغاز والمحروقات بنسبة 594% خلال الفترة نفسها. في الوقت ذاته، ظهر أثر رفع الدعم عن الأدوية والمستلزمات الطبيّة، من خلال ارتفاع أسعار المنتجات الصحيّة بنسبة 292% بين الفترتين. مع الإشارة إلى أنّ هذا الرقم يعني ببساطة أن كلفة المنتجات الصحيّة، التي تشمل الاستشفاء والأدوية، تضاعفت بنحو 3.29 مرّات.
أمّا الملفت للنظر، فهو ارتفاع أسعار المواد الغذائيّة بنسبة 332% بين الفترتين، والمشروبات بنسبة 221%، نتيجة لتقاطع عاملي هبوط سعر صرف الليرة وارتفاع أسعار المواد الغذائيّة عالميًّا. أمّا أسعار الألبسة والأحذية، فلم ترتفع إلا بنحو 167%، ولم تحل في مراتب الأولى من بين أبواب الإنفاق من ناحية نسبة ارتفاع أسعارها، كما كان يحصل في السابق. فكما بات واضحًا، ونتيجة رفع الدعم عن المحروقات والأدوية والمستلزمات الطبيّة، ونتيجة ارتفاع أسعار الأغذية عالميًّا، لم يعد الإنفاق على الألبسة والأحذية يقود ارتفاعات مؤشّر أسعار المستهلك، كما حصل في السنوات السابقة، بل ترك المراتب الأولى لأبواب الإنفاق على الصحّة والغذاء والنقل. أمّا الخطير هنا، فهو أنّ ارتفاعات الأسعار باتت تقودها سلع أساسيّة وحيويّة لا يمكن الاستغناء عنها، وهو ما يمثّل خطراً داهماً على الأسر المحدودة الدخل.
أبواب الانفاق الأخرى شهدت نسبة متفاوتة من ارتفاع الأسعار، كحال الاتصالات التي لم ترتفع أسعارها إلا بنحو 7.28%، وهو رقم يُفترض أن يرتفع في الإحصاءات المقبلة لكونه لا يشمل أثر الزيادات الأخيرة في تسعيرة الاتصالات (الأرقام تشمل الأسعار لغاية شهر حزيران فقط). كما ارتفعت كلفة التعليم بنسبة 36%، والأثاث بنسبة 159%، والاستجمام والثقافة والتسلية بنسبة 124%. أما البنود التي لم تشهد زيادات تُذكر، فكانت كلفة الإيجار القديم التي ارتفعت بنحو 2% فقط، والإيجار الجديد الذي لم يرتفع إلا بحدود 7% فقط. وهذه الأرقام عكست بطبيعة الحال أثر الركود في القطاع العقاري، وتقلّص الطلب على المساكن، وهو ما أدّى إلى انخفاض نسبة الزيادة في الإيجارات الجديدة، رغم انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة.
في خلاصة الأمر، ستؤدّي هذه التطورات إلى انخفاض القيمة الشرائيّة للأجور بنحو ثلثي قيمتها الأساسيّة، كما كانت منذ عام، بغياب تصحيح منظّم وشامل لأجور جميع القطاعات الاقتصاديّة. بمعنى آخر، النتيجة الحتميّة لهذا الواقع ستكون ارتفاع نسبة القابعين تحت خط الفقر، في ظل تراجع قدرة أجورهم على تأمين الحد الأدنى من المستلزمات الحياتيّة.