الأسواق الماليّة متفائلة بوقف إطلاق النار…على هشاشته!

في ختام الأسبوع الأوّل الذي شهد دخول لبنان مرحلة وقف إطلاق النار، بدا أنّ الأسواق مازالت متفائلة بالمرحلة المقبلة، وما ستشهده بالنسبة لمختلف الملفّات الماليّة والنقديّة. فرغم الخروقات المتكرّرة لهذا الاتفاق، والتي توحي بالنسبة لكثيرين بأنّ إجراءاته ستكون هشّة إلى حد بعيد، واظبت سندات اليوروبوند على تسجيل زيادات سريعة في أسعارها، التي وصلت في ختام الأسبوع الماضي إلى حدود الـ 10 سنت للدولار، أي 10% من قيمة السند الإسميّة. مع الإشارة إلى أنّ هذه الأسعار تراوحت بين 8.5 و9.2 سنتاً للدولار خلال الأسبوع السابق، ما يعني أن هذه السندات سجّلت ارتفاعًا بنسبة 18% خلال أسبوع واحد فقط.

ارتفاع أسعار السندات، يعني تلقائيًا أنّ ثمّة تفاؤلاً يدفع المستثمرين إلى زيادة الطلب عليها، وهو ما يعكس توقّعات إيجابيّة بالنسبة لمستقبلها. وحين نتحدُث عن مستقبل هذه السندات، فذلك مربوط طبعاً بمسار إعادة هيكلة الدين العام المُعلّق، بما أنّ الدولة ممتنعة عمليًا عن تسديد ديونها بالعملات الأجنبيّة. كل هذا المسار، لا يمكن أن يتم خارج إطار سلّة الإصلاحات الشاملة، التي يتم التفاوض عليها مع صندوق النقد الدولي منذ خمس سنوات، والتي ظلّت معلّقة لتلكّؤ لبنان في تنفيذ شروط الصندوق. وكما هو معلوم بالنسبة للجميع، لا يمكن الفصل بين التحوّلات السياسيّة المنتظرة، ومستقبل هذه الإصلاحات، بل ومستقبل التفاهم مع صندوق النقد نفسه.

بماذا تتفاءل الأسواق؟
من المهم الإشارة إلى أنّ زيادات الأسعار الأخيرة، التي حصلت عقب إقرار اتفاق وقف النار، جاءت لتُضاف إلى الزيادات السابقة، التي حصلت بالتوازي مع توسّع نطاق الحرب الإسرائيليّة على لبنان. وللتذكير فقط، قبل توسّع نطاق الحرب، لم تكن أسعار السندات قد تجاوزت حدود الـ 5.875 سنتاً للدولار. في تلك المرحلة، رأت الشركات الماليّة التي أقبلت على شراء السندات أنّ الحرب الإسرائيليّة، وما سينتج عنها من تسويات لاحقة، قد تفتح الباب أمام خلط ما للأوراق السياسيّة محليًّا، وهو ما سيسهّل تنفيذ “الإصلاحات المتناسبة مع مصالح الأسواق” على حد قول عدّة تقارير ماليّة. باختصار، لم يكن الرهان على الحرب ونتائجها جديدًا اليوم.

غير أنّ هناك ما يستحق التوقف عنده، بالنسبة لتفاؤل المستثمرين باتفاقيّة وقف إطلاق النار نفسها، وما يرتبط بهذا التفاؤل بالنسبة لتوقّعات الأسواق. وهذا ما يمكن ربطه بعدّة عوامل:

1- ثمّة مناخ عام في السوق، يتوقّع ربط الجهات المانحة للمساعدات التي سيحصل عليها لبنان لإعادة الإعمار، بالإصلاحات التي كان يصرّ عليها تقليديًا كل من البنك الدولي وصندوق النقد، أو على الأقل جزء من هذه الإصلاحات والشروط. وبهذا الشكل، سيكون برنامج التعويضات والمساعدات ورقة تفاوضيّة بيد هاتين الجهتين، وهو ما يمكن أن يسهّل تنفيذ الخطّط الإصلاحيّة المتفق عليها سابقًا مع الحكومة اللبنانيّة. وكما أشرنا سابقًا، تُعتبر عمليّة إعادة هيكلة الدين العام، واستئناف سداده بعدها، إحدى الخلاصات المتوقّعة لهذه المسارات.

2- تشير التوقّعات إلى أن الثنائي الشيعي سيملك حكمًا مصلحة واضحة ومفهومة في تسريع العمل على كل ما من شأنه تسهيل الحصول على المساعدات. غير أنّ الأطراف السياسيّة ستملك بدورها حافزًا للدفع بالاتجاه نفسه، طالما أنّ إبطاء عمليّة إعادة الإعمار ستثير هواجس ديموغرافيّة غالبًا ما ترتبط بعمليّات التهجير الجماعي في لبنان.

3- أظهرت مجريات الأيّام الماضية أنّ ثمّة تسويات سياسيّة مؤجّلة قد يُفرج عنها خلال المرحلة المقبلة، وخصوصًا بعدما قرّر رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي الدعوة إلى جلسة مقبلة لانتخاب رئيس للجمهوريّة، وإن لم يتبيّن بعد مدى جديّة التفاوض على إنجاح الجلسة. لكن الأكيد هو انّ اكتمال عقد المؤسّسات الدستوريّة، سيعني المضي بتشكيل حكومة مكتملة الصلاحيّات، ما سيسهّل إعادة صياغة خطّة التعافي المالي والتفاوض على إعادة هيكلة الدين العام.

أرقام مصرف لبنان جيّدة
يُضاف إلى هذه الأجواء، الانطباعات الإيجابيّة بخصوص آخر ميزانيّة نصف شهريّة نشرها المصرف المركزي، بعد ظهر يوم أمس الإثنين. إذ تبيّن بحسب أرقام المصرف أن احتياطات المصرف لم تتراجع خلال النصف الثاني من شهر تشرين الثاني إلّا بحدود الـ 46.7 مليون دولار، ليبقى حجمها مستقرًا عند مستوى 10.15 مليار دولار في نهاية الشهر نفسه. وبذلك، يبدو من الواضح أنّ المصرف تمكّن في تلك الفترة بالتحديد من إبطاء وتيرة استنزاف الاحتياطات، والتي أثارت القلق سابقًا بخصوص مستقبل الوضع النقدي.

إلى جانب هذا المؤشّر، عكست الميزانيّة النصف شهريّة استقرارًا موازيًا في حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة اللبنانيّة، والتي تراجع حجمها إلى نحو 49.82 ترليون ليرة لبنانيّة في ختام الشهر الماضي، مقارنة بـ 49.93 ترليون ليرة في منتصف الشهر. وبطبيعة الحال، يرتبط استقرار هذا المؤشّر بالتحديد بالجانب المتعلّق بتوازنات سوق القطع، إذ أنّ قدرة المصرف المركزي على ضبط سعر صرف الليرة اللبنانيّة هناك محكومة بقدرته على ضبط حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة، والتي يمكن أن تتحوّل إلى طلب على الدولار الأميركي.

في النتيجة، من المبكر حاليًا الجزم بمستقبل الوضع المالي والنقدي على المدى المتوسّط، حيث سترتبط تطوّرات المرحلة المقبلة بجملة من العوامل، وعلى رأسها استمرار العمل باتفاق وقف إطلاق النار، ولو بوجود الخروقات التي تجري حاليًا. كما سيرتبط بإمكانيّة إنتاج قيادة سياسيّة في السلطة التنفيذيّة، للتمكّن من العمل على الملفّات الماليّة العالقة، ومنها الجانب المتعلّق بإعادة هيكلة النظام المالي.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةركام الحرب ينتظر المعالجة:تخوّف من ردم بحر صوْر
المقالة القادمةبوشكيان: الصناعة محفز أساسي للاقتصاد ونحتاج إلى فصل السياسة عن الإنتاجية