الأسواق قلقة من موازنة 2019.. الإجراءات غير كافية

 

 

لا يُذكر في تاريخ لبنان أنّ مشروع موازنة خضع لهذا الكمّ الهائل من الدرس. أكثر من 35 جلسة حتى الساعة تمّ خلالها تشريح الموازنة وتبقى العبرة في النتائج. فما هي توقعات عجز الموازنة والدين العام في الأعوام المقبلة؟

مَن يُقارن موازنات الأعوام السابقة مع ما تمّ تحقيقه على الأرض، يستنتج أنّ هناك إستحالة لتحقيق الأرقام المتوقّعة الواردة في مشروع موازنة العام 2019 (حتى بعد تعديلات لجنة المال والموازنة).

فعلى سبيل المثال، كانت الإيرادات المُتوقّعة في موازنة العام 2018، 17.72 مليار دولار أميركي. وبما أنّ الموازنة تفرض أن يكون الإنفاق على مستوى الإيرادات نفسهـ تمّ توقع عجز بقيمة 4.8 مليارات دولار أميركي. النتائج المُحقّقة لا تمتّ إلى الموازنة بصلة، فالإيرادات بلغت 11.72 مليار دولار أميركي (أي فقط 66% من المتوقع!) والإنفاق بلغ 18.06 مليار دولار أميركي أي بزيادة 2% عن المتوقّع، ما يعني أنّ العجز الفعلي كان 6.34 مليارات دولار أميركي.

الأرقام المتوقّعة في مشروع موازنة العام 2019 الذي أرسلته الحكومة إلى مجلس النواب هي 17.08 مليار دولار أميركي مع توقعات للعجز بقيمة 4.1 مليارات دولار أميركي. ويحق لنا كمراقبين تطبيق نسب العام 2018 على موازنة 2019. إلّا أنّ البعض قد يقول (وهذا حق)، أنّ الأمور تغيّرت والآن لجنة المال والموازنة تقوم بعملية تدقيق كبيرة.

في الواقع الإجراءات التي تقوم بها لجنة المال والموازنة بحسب تصريح رئيس اللجنة النائب إبراهيم كنعان هي إجراءات تهدف إلى خفض الإنفاق (إصلاحات) وليس فرض ضرائب ورسوم، وأنّ كل إلغاء لأيّ مادة أو تعديلها تعمد اللجنة إلى إيجاد إيرادات لتغطية البند إذا كان الإلغاء أو التعديل يزيد من الإنفاق. وعلى سبيل المثال، قامت اللجنة بتخفيض موازنات العديد من المؤسسات والوزارات بنسبة 10%.

وهنا تبرز أربع مشكلات:

أولاً – ماذا لو كانت الوزارات أو المؤسسات قد أنفقت أكثر من نصف الموازنة المرصودة بعد عمل لجنة المال والموازنة؟ هل ستتوقف هذه الوزارات أو المؤسسات عن العمل أو سيتمّ رصد إعتمادات لها من خارج الموازنة؟

ثانياً – التعديلات والإلغاءات التي تقوم بها اللجنة لا تواكبها زيادة في الإيرادات فعلية أو أقلّه لم يطّلع الرأي العام على مثل هذه الزيادات إلّا أللهم زيادة الرسوم على المقالع والكسّارات.

ثالثاً – وكالات التصنيف الإئتماني سبق وحذّرت في تصاريح لها أنّ عجز الموازنة سيكون أكثر من 9% من الناتج المحلّي الإجمالي. وبحسب التوجّهات المُعلنة لهذه الوكالات، ستقوم في أول موعد لتقييم تصنيف لبنان الإئتماني إلى خفض التصنيف درجة واحدة مع نظرة سلبية للمستقبل، وهذا الأمر سيزيد من كلفة خدمة الدين العام بالدولار الأميركي. الجدير ذكره أنّ كلّاً من «ستاندر آند بورز» و»فيتش» أعطت من بين الحجج عامل الوقت.

رابعاً – الوضع الإقتصادي في تراجع مُستمر مع فقدان ثقة اللاعبين الإقتصاديين. وليس بخفيٍّ على أحد أنّ سياسة رفع المديونية التي بدأت المصارف بتطبيقها منذ الفصل الرابع من العام 2018، سيؤدّي حكماً إلى تراجع النموّ الإقتصادي أي بمعنى أخر إيرادات الخزينة من الضرائب والرسوم. فهل تأخذ لجنة المال والموازنة هذا الأمر بعين الإعتبار؟

إذاً نرى ممّا سبق أنّ عامل الوقت يلعب ضد عمل لجنة المال والموازنة وكان الأجدى القيام بهذا الجهد الهائل الذي تقوم به، لدراسة موازنة العام 2020 لأنّ أيّ إجراء سيتمّ أخذُه في موازنة العام 2019، لن يُعطي المفعول المرجو منه والتاريخ سيُثبت أو يُسقط ما نقوله.

الأسواق المالية تعرف هذا الأمر وتتعامل على هذا الأساس مع سندات الخزينة اللبنانية بالعملة الأجنبية، إذ يكفي النظر إلى تدهور سعر سندات الخزينة منذ البدء بدراسة مشروع موازنة العام 2019 في مجلس الوزراء، وحالياً في لجنة المال والموازنة لمعرفة كيف تتلقّى هذه الأسواق التأخير في إقرار الموازنة.

أيضاً هناك تجميد شبه تام للإستثمارات المباشرة أكانت أجنبية أو محلية وذلك بسبب إنتظار ما ستؤول إليه موازنة العام 2019. أضف إلى ذلك الصعوبة في الإقتراض من المصارف مع سياسة الإنكماش في القروض المُتّبعة حالياً.

القراءة التي تقوم بها الأسواق لعمل لجنة المال والموازنة ومن قبلها الحكومة في ما يخص الموازنة هي قراءة سلبية، والسبب الرئيسي يكمن في عدم معالجة أبواب الفساد الكبيرة التي تكمن فيها المبالغ الكبيرة مثل الأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد وغيرها. وهنا يبرز خبر نشرته جريدة «الجمهورية» عن أنّ تكتل «حزب الله» سيقوم بفتح ملف فساد كبير وهو ملف المقالع والمرامل والكسارات، والذي من الظاهر أنه يحرم خزينة الدولة من 3 مليارات دولار أميركية.

على كل المحاكاة التي قمنا بها على أساس سيناريو إفتراضي تفاؤلي يفترض رفع الإيرادات بنسبة 3% والإنفاق بنسبة 3% أيضاً (مقارنة بـ 1% و17% العام 2018). أيضاً أخذنا بعين الإعتبار الكلفة على سندات الخزينة في العام 2020 الناتجة عن خفض تصنيف لبنان الإئتماني (9% زيادة في النفقات) والكلفة الناتجة عن إنتهاء مهلة وقف التوظيف في العام 2022 (13% زيادة في النفقات). وفي الختام إفترضنا زيادة في الإيرادات في العام 2022 ناتجة عن إستثمارات مشاريع مؤتمر سيدر (بنسبة 5% وبعدها 8%) وهذا ما توصلنا له:

– في العام 2019، سيرتفع العجز في الموازنة إلى 6.53 مليارات دولار أميركي أي بزيادة 3% عن العام المُنصرم. كما سترتفع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي إلى 164%.

– في العام 2020، سيرتفع العجز في الموازنة إلى 7.84 مليارات دولار أميركي مع إرتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي إلى 171%. هذا الإرتفاع يعود بالدرجة الأولى إلى تراجع النموّ الإقتصادي وارتفاع كلفة خدمة الدين العام.

– في العام 2021، سيرتفع العجز في الموازنة إلى 10.11 مليارات دولار أميركي مع إرتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي إلى 179%. هذا الإرتفاع يعود إلى إرتفاع كلفة خدمة الدين العام، ولكن أيضاً إلى إنتهاء مهلة وقف التوظيف في القطاع العام خصوصاً مع قرب الإنتخابات النيابية.

وتبقى المخاوف الكبرى في الأسواق المالية من أن تعمد السلطة إلى تحميل مصرف لبنان عجز موازنة الدوّلة عبر نقلها إلى مصرف لبنان من خلال قروض مُيسّرة بنسبة 1%. إذ ترى الأسواق أنّ ذلك ضرب للإستقرار النقدي ولكنه أيضاً ضرب للثقة بالمصارف اللبنانية، وما قد يليه من هروب رؤوس الأموال.

بواسطةبروفسور جاسم عجاقة
مصدرالجمهورية
المادة السابقةأمراض القلب التاجية تسرع التدهور المعرفي المؤدي للخرف
المقالة القادمةهذا ما سيعرضه فياض في مؤتمر اليوم