منذ يوم الجمعة الماضي، دخل الشرق الأوسط مساراً مجهول المآلات والعواقب، في ظل الهجمات الإسرائيليّة على البنية التحتيّة النوويّة والبتروليّة والعسكريّة الإيرانيّة، وردود طهران على هذه الضربات. حتّى هذه اللحظة، لم يتّسع التصعيد بما يكفي للتأثير جدياً -وبنطاقٍ مؤثّر وواسع- على سلاسل توريد الطاقة العالميّة، ولم يبلغ درجة الضغط المؤلم على خطوط الشحن العالميّة، كما جرى على سبيل المثال في البحر الأحمر منذ الفصل الأخير من العام 2023. ومع ذلك، كان القلق من التداعيات المحتملة كافياً ليترك آثاراً تردّد صداها في جميع أنحاء العالم. في حالة التصعيد الراهن، كان الخوف من المجهول أكثرُ تأثيراً من الوقائع المعلومة اليوم.
خوف أسواق النفط
عكست أسعار النفط منذ بداية التصعيد هواجس المتداولين. إذ خلال يوم الجمعة وحده، شهدت أسعار النفط ارتفاعات قاربت 13%، ليصل خام برنت إلى حدود 78.5 دولاراً أميركياً في بعض ساعات ذلك النهار. وفي خلاصة ذلك اليوم، كانت حركة الأسعار قد بلغت أعلى مستوياتها منذ العام 2022، الذي شهد بدايات الغزو الروسي للأراضي الأوكرانيّة. وفي مستهل هذا الأسبوع، واصل سعر النفط الارتفاع بنسبة قاربت 5.5%، في تداولات أولى ساعات صباح امس الإثنين.
في واقع الأمر، لا يمكن تجاهل حقيقة أنّ الاستهدافات الإسرائيليّة طالت بالفعل مصافي واحتياطات نفط في مناطق مثل بوشهر ومحيط طهران، غير أنّ تأثير هذه الضربات ظلّ محصورًا بإمدادات الطاقة المرتبطة بالسوق المحليّة، ولم يظهر حتّى اللحظة تأثير كبير على عمليّات إنتاج وتصدير النفط الخام. ويبدو أن إسرائيل لم ترغب في فتح الباب على استهدافات أوسع نطاقًا، في ما يخص منشآت إنتاج النفط الخام، خشية التأثير على الموقف الأميركي، الأكثر حساسيّة إزاء أي ارتفاع في أسعار النفط العالميّة. إذ ثمّة ما يكفي من تقديرات للاستنتاج بأنّ الإدارة الأميركيّة قد تكون أكثر استعجالًا لإنهاء المواجهة، في اللحظة التي قد تشعر بأنّ هذه المواجهة سترفع أسعار النفط الخام إلى مستويات خياليّة، وبما يتجاوز الارتفاع القلق والمتوجّس -وأيضًا المحدود نسبيًا- الراهن.
لقد كان الارتفاع في أسعار النفط مدفوعًا بالمخاوف إذاً، لا بالتأثير الجدّي على المعروض النفطي الخام. وقد يكون جوهر المسألة مرتبطًا بالخشية من عرقلة خطوط شحن النفط، وخصوصًا تلك التي تعبر بمضيق هرمز، الذي يستوعب خُمس حركة النفط العالميّة، أو نحو 20 مليون برميل من النفط يوميًا. ولعلّ الأسواق تذكّرت شبح ما جرى في البحر الأحمر مع الحوثيين، في أواخر العام 2023، وأدركت التداعيات التي قد تنتج عن تكرار هذا النموذج في مضيق هرمز.
ومع ذلك، من المهم التذكير بأنّ منتجي النفط في المنطقة يملكون “خطط باء” لتصدير نفطهم، وإن بكميّات أقل، في حال إقفال مضيق هرمز. ومن هذه الخطط مثلاً، خط النفط الخام الذي ينقل الإنتاج من شرق المملكة العربيّة السعوديّة إلى غربها، وخط النفط الذي يسمح للإمارات العربيّة المتحدة بنقل إنتاجها جنوبًا نحو ميناء الفجيرة، وخط كردستان الذي يسمح بنقل النفط العراقي إلى الشبكات التركيّة. هذه الخطوط، لن تستوعب إلّا جزءًا من النفط الذي يمرّ عبر مضيق هرمز، لكنّها ستسمح بامتصاص جزء من الصدمة التي ستتشكّل من إقفال المضيق بشكلٍ كامل.
أمّا العامل الآخر الذي قد يمتص جزء من صدمة إقفال المضيق، إذا حدثت، فسيكون توفّر الاحتياطي الاستراتيجي النفطي الأميركي، الذي سيسمح للإدارة الأميركيّة بالتعامل مع جزء من الطلب المحلّي على النفط، في حال حصول خضّات على مستوى المعروض العالمي. وفي الوقت الحالي، يُقارب حجم هذا المخزون حدود 395 مليون برميل، بقدرة سحب قصوى تبلغ 4.4 مليون برميل يوميًا.
التأثير على إمدادات الغاز
تختلف المسألة بالنسبة لإمدادات الغاز الطبيعي. فأولى تداعيات التصعيد الراهن، كانت وقف الإنتاج في حقلي كاريش وليفياتان في إسرائيل، وهو ما أوقف جزءًا من إمدادات الغاز المحلّي، وعطّل صادرات الغاز المتجهة إلى مصر والأردن. مع العلم أنّ حجم إنتاج الحقلين معًا يقارب 17.1 مليار متر مكعّب في السنة. وبهذا الشكل، انحصرت عمليّات إنتاج الغاز الإسرائيلي بحقل تمار، ما خفّض الإنتاج الإجمالي بنحو النصف.
سريعًا، تلمّست أسواق الغاز العالميّة آثار هذا التطوّر. إذ ارتفعت أسعار العقود الأوروبيّة للغاز الطبيعي بنسبة 6.6%، في ما بدا كتلمّس من قبل السوق لأثر انخفاض واردات الغاز الإسرائيلي. ومع المعلوم أن إسرائيل كانت تعمد إلى تصدير فائض هذا الإنتاج عبر الأنابيب إلى مصر، لتسييل جزء من هذا الإنتاج وبيعه في السوق العالميّة. كما كانت مصر تعتمد على هذه الواردات لتلبية جزء من الاستهلاك المحلّي، وتخفيض حاجتها للغاز المُسال المستورد.
في مصر، كانت التداعيات أوضح، وخصوصًا بعدما أدّى انخفاض واردات الغاز من إسرائيل إلى خفض الإنتاج في بعض القطاعات الصناعيّة، وخصوصًا في مجال إنتاج الأسمدة. وتكمن مشكلة مصر في أنّ إنتاجها المحلّي من الغاز كان قد انخفض أساسًا إلى 3.3 مليارات متر مكعّب في شباط الماضي، بعدما ناهز حدود 4.6 مليارات متر مكعّب في الشهر السابق، وهو ما فاقم الحاجة إلى الغاز المستورد. وجميع هذه التطوّرات، باتت تضع مصر أمام تحديات كبيرة، تقف في وجه طموحها بالتحوّل إلى مركز إقليمي لإنتاج وإعادة تصدير مصادر الطاقة.
في سوق الغاز أيضًا، كان ثمّة خضّة ناتجة عن استهداف حقل بارس الجنوبي في إيران، بمسيّرة إسرائيليّة ضربت منشآت معالجة الغاز في “المرحلة 14”. وهذا ما أدّى بدوره إلى تراجع إنتاج الحقل بنحو 12 مليون متر مكعّب من الغاز، وهي إمدادات كانت تغذّي في العادة حاجة السوق المحلّي من هذه المادّة. بطبيعة الحال، لن تؤدّي هذه التطوّرات إلى المسّ بتوازنات العرض والطلب في الأسواق العالميّة بشكلٍ مباشر، طالما أنّ إنتاج الحقل كان موجّهًا نحو الداخل. لكنّ خفض الإنتاج قد يفاقم مشكلة نقص الطاقة الموجودة أساسًا في إيران.
في النتيجة، قلبت الأحداث الأخيرة بعض توجّهات السوق العالميّة. فعادت أسعار مصادر الطاقة للارتفاع، بعدما شهد هذا العام انخفاضًا ملحوظاً في أسعار النفط، وسط عدم حماسة كبار منتجي تحالف أوبيك بلاس لخفض الإنتاج. ومن المتوقّع أن يسهم هذا التطوّر بإعادة دفع معدلات التضخّم للصعود، بعدما راهنت المصارف المركزيّة حول أنحاء العالم على مساهمة أسعار النفط المنخفضة في خفض نسبة التضخّم. وقد تستعد المصارف المركزيّة، أمام تحوّل من هذا النوع، لإرجاء بعض خطط التيسير النقدي، أو إبطاء وتيرتها.