التشبه بالخارج لجهة تقييد التصدير حفاظاً على الأمن الغذائي، حلّ وبالاً على القطاع الإنتاجي. وبدلاً من أن ««تكحّل»» وزارة الصناعة مثل هذا الإجراء بأصناف محددة من السلع الأساسية، ««عمَتها»» بلائحة تضم ما هبّ ودبّ في الصناعات الغذائية، لدرجة، أصبح معها درء الجوع يتطلب ««التكمش»» بحبة البقلاوة وتشكيلة المكسرات وعبوات المياه المعدنية وزجاجة البيرة.
التداعيات الخطيرة التي تركها قرار «منع تصدير مواد الغذاء المصنعة في لبنان، إلا بعد حيازة إجازة تصدير صادرة عن وزارة الصناعة»، دفع بالأخيرة إلى إعادة البحث بالقرار مع أصحاب الشأن. الأمر الذي يثبت أن «القرار الذي اتخذ بمعزل عن التشاور مع جمعية الصناعيين، والمعنيين في القطاعات الانتاجية، كان متسرعاً، ولم يراع المنطق»، وفق عضو مجلس إدارة جميعة الصناعيين بول أبي نصر. و»الدليل الأبرز أنه قيّد تصدير سلع ومواد لا يدخل في تركيبتها إلا القليل من المواد الاستراتيجية كالقمح والزيت والسكر، فيما سمح باعادة تصدير الرز على أساس أنه لا ينتج محلياً. فهل تصدير المنتجات اللبنانية مثل المكسرات أو البن أو الحلويات والمشروبات الكحولية والنبيذ على سبيل المثال، يؤدي إلى مجاعة ويهدد أمن المواطنين الغذائي، أكثر من الرز المسموح باعادة تصديره من دون قيد أو شرط؟!».
يحد من التدفقات النقديةالقرار الذي شمل سلة واسعة من المنتجات والمشروبات المصنعة محلياً بطلب الإجازة المسبقة للتصدير، «كان يجب أن يكون انتقائياً وليس عمومياً، وأن يبقى محصوراً بالطحين والقمح والمملكة الحيوانية كالفروج ومقطعاته والحبوب المنتجة محلياً والزيت النباتي فقط»، بحسب أبي نصر، «فيما يجب أن يستثنى منه زيت الزيتون الذي يشكل تصديره عاملاً أساسياً يعتمد عليه المزارع اللبناني والاقتصادي لجذب الدولارات النقدية، وشراء المواد الأساسية من الخارج؛ ومثله الكثير من الاصناف التي يضر منع تصديرها أكثر بكثير من الابقاء عليها في السوق الداخلية».
لعلّ أخطر ما في القرار أنه تُرك مفتوحاً، ولم يجر تحديده بفترة زمنية معينة تنتهي بعد شهر، أو أقل أو أكثر، مثلما يفترض المنطق. كما حصر تقديم إجازات التصدير والموافقة عليها بمكتب الوزير، الأمر الذي يُنذر بتأخير كبير في البت بالملفات. ولا سيما مع ما تعانيه إدارات الدولة من نقص في الكادر البشري وعدم توفر الكهرباء وأدوات العمل الأساسية، والإضرابات المفتوحة لموظفيها. وهو ما يتطلب بحسب أبي نصر «تعديل القرار على وجه السرعة. فيُحدد لفترة زمنية معينة. ويقيد تصدير السلع الأساسية التي يشكل فقدانها خطراً على الأمن الغذائي، ويستثني تلك التي يشكل تصديرها عنصراً أساسياً لتأمين التدفقات النقدية بالعملة الصعبة، تسمح باعادة شراء المواد الاساسية التي نستهلكها ولا نصنعها أو ننتجها». فربط أغلبية السلع بالاجازة المسبقة التي قد يتأخر إعطاؤها لأيام وأسابيع يضر بعلاقات المصدرين مع الخارج، ويحملهم جزوات مادية نتيجة الإخلال بالعقود الموقعة، ويحرمهم فرصة تجديد التعاقد معهم في المستقبل نتيجة تحول لبنان إلى بيئة غير صالحة للعمل والتبادل التجاري».
معاناة المنتجين عموماً والصناعيين خصوصاً مع القرار العشوائي لم تكن الأولى، والأكيد أنها لن تكون الاخيرة. فقبلها أوقفت التصاريح السياسية العلاقات مع الدول الخليجية، ثم أتت أزمة تهريب المخدرات بشحنات المزروعات لتقفل أسواق تلك الدول كلياً، وتمنع مرور البضائع اللبنانية فيها، وتخسّر المنتجين مئات الملايين من الدولارات وفرص التوسع المأمولة. وقد تزامنت هذه الأحداث مع منع تحويل الأموال، والإضرابات على المرفأ، وتقطع العمل، وتعطل الرافعات، واصطفاف السفن الكبيرة لأيام قبل التحميل أو التفريغ. الأمر الذي دفع بالشركات إلى وقف تسيير رحلاتها التجارية إلى لبنان واستبدال السفن الكبيرة بالصغيرة. كل هذه المعوقات المترافقة مع الضبابية واللايقين في ما يتعلق بالتصدير، أدت إلى وضع المصانع اللبنانية ولا سيما الكبيرة منها الخطة (ب) لنقل المصنع إلى خارج لبنان، وتحديداً إلى مصر وقبرص وتركيا وسلطنة عمان. وقد بدأت الكثير من الشركات تنفيذ الخطة البديلة «نتيجة سوء سمعة لبنان بالدرجة الأولى، واعتباره بلداً لا يمكن الاتكال عليه»، بحسب أبي نصر، فـ»تحمَّل المنتجون نتيجة ذلك أكلافاً باهظة بسبب عرقلة التصدير من جهة، وفقدان وارتفاع أسعار المواد الاساسية للانتاج، وفي مقدمها الطاقة، من جهة ثانية».
التداعيات طالت أيضاً شركات الشحن الجوي والبحري التي تعمل في لبنان. حيث انعكس القرار تراجعاً كبيراً في عملها خلال الأيام القليلة المنصرمة. و»قد أدى غياب الوضوح في القرار، والتداخل الكبير في السلع والمواد التي يتطلب تصديرها إجازة مسبقة، وجهل المعنيين بتنفيذ القرار بحيثياته… إلى تعليق أعمالنا ريثما توضح الرؤية»، بحسب صاحب شركة METRANS للشحن روني نعمة، «فاللائحة بالمواد الممنوعة من التصدير مبهمة. والكثير من المواد يدخل في تكوينها قسم من المواد الممنوع تصديرها، فمنعت من التصدير. مثل: الحلويات التي نعتمد على تصديرها بكثرة إلى كندا وغيرها من البلدان».
مرحلة تضييع الوقت نتيجة الاصطدام بمعوقات التنفيذ البيروقراطية، «ثمنها مرتفع جداً على القطاعات الانتاجية والخدماتية والاقتصاد بشكل عام»، من وجهة نظر نعمة، «فالإخلال بالعقود مع الخارج سيؤدي إلى وقف التعامل مع المصدرين اللبنانيين والتفكير مرتين قبل التعاقد لفترات طويلة، وسيبدأ المستوردون بالبحث عن البدائل في الدول القريبة والبعيدة. الأمر الذي يؤثر سلباً على مستقبل قطاعي الانتاج والشحن. خصوصاً إذا أخذنا في عين الاعتبار البيئة التنافسية الضاغطة على مختلف الأسواق».
لا شبيه لعرقلة التصدير الذي يأتي بالعملة الصعبة لحماية الأمن الغذائي، إلا الضرائب العامة على الإستهلاك. فالإجراءان «أعميان» ويصيبان الجميع من دون أن يؤديا الغرض منهما. ففي الوقت الذي تدفع القطاعات الانتاجية ومن خلفها الاقتصاد ثمن القرارات المتسرعة وغير المنطقية، يستمر المحتكرون باخفاء السلع الأساسية بانتظار رفع سعرها. وهذه الفئة ليس هناك من يطالها أو يحاسبها.