شكَّلَت أزمة المياه التي شهد لبنان فصولاً جديدة منها خلال العام 2022، امتداداً طبيعياً لحالة الانحدار المستمرّة. واللافت أن التداعيات الملموسة في العام الفائت، أظهرت المنحى السلبي الذي تسلكه البلاد. فانتشار الكوليرا بمعدّلات مرتفعة، وانقطاع المياه في جميع المناطق، لم يشفع في تجميد المشاريع التي تغطّيها علامات الاستفهام، الأمر الذي يشي بأن أزمة المياه ما زالت في طور النموّ، وكما في الأنهار ومياه الشرب، كذلك في البحر.
مازوت وصهاريج
مَنَعَ الانقطاع شبه التام للكهرباء، تشغيل مولّدات ضخ المياه في الآبار المركزية في القرى والمدن. وقدَّمَت أزمة المحروقات التي تجلَّت بدولرة أسعار المازوت، سبباً إضافياً لتأخُّر الصهاريج الخاصة عن تلبية الطلب المرتفع للسكّان. فتراوحَ سعر صفيحة المازوت بين 20 و25 دولاراً. ومع وصول نسبة انقطاع المياه بين 70 إلى 100 بالمئة، ارتفعت كلفة المياه المنقولة عبر الصهاريج، فوصل سعر الصهريج إلى نحو 400 ألف ليرة، ما أوصلَ فاتورة الصهاريج إلى ما لا يقلّ عن مليون و600 ألف ليرة شهرياً للمنزل الواحد.
حاولتَ البلديات الاعتماد على الطاقة الشمسية لتشغيل مولّدات الضخ المركزية، لكنها وقعت في مشكلة التمويل، لأن كلفة تركيب ألواح الطاقة الشمسية ومستلزماتها، مرتفعة جداً. فاعتمدت بعض البلديات على تبرّعات المغتربين والجمعيات والمنظمات الدولية، فضلاً عن المساعدات التي قدّمتها قوات اليونيفيل في القرى الجنوبية. ومع ذلك، لم تُحَلّ الأزمة بشكل نهائي.
أزمة مياه بيروت
أظهَرَ تعطُّل خط الضخ الرئيسي الذي يغذّي بيروت، مدى اهتراء شبكة توزيع المياه في لبنان. فإصلاح الخط الممتد من منطقة ضبية إلى العاصمة، والمعروف بخط 1200، وقع ضحية عدم توفّر الدولارات الكافية. إذ أن المتعهّدين طلبوا أجرتهم بالدولار النقدي، ما أجبر مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان على الاستعانة بمهندس أقل كفاءة، فزاد حجم الأعطال على الخط، وتأخّر ضخ المياه إلى العاصمة.
والتمويل الآتي عبر منظمة اليونيسف، لم يستطع انقاذ الخط بشكل كلّي. فأثناء تجربة الضخ بعد إصلاح جملة من الأعطال، ظهر تسرّب للمياه في مواقع أخرى نتيجة اهتراء الشبكة التي يعود تأسيسها إلى أكثر من 50 عاماً.
الكوليرا وأسماك القرعون
ذَكَّرت عملية تفشّي جرثومة الكوليرا، بتلوّث المياه من الشمال إلى الجنوب، مروراً بالبقاع الذي ينطلق منه نهر الليطاني، أكثر الأنهار اللبنانية نشراً للمياه الملوّثة، بفعل مروره بالكثير من القرى وصولاً إلى مصبّه في البحر، جنوب لبنان، ومغذّياً بحيرة القرعون التي تتزايد فيها معدّلات التلوّث مخلّفة كارثة تتجلّى بصيد وتجميع الأسماك النافقة، وبيعها في الأسواق.
مئات ملايين الدولارات صُرِفَت من جهات دولية لتنظيف مجاري الأنهار، وتحديداً نهر الليطاني، وضمناً الأموال المخصصة لتنظيف بحيرة القرعون، اختفت من دون إتمام المهمّة. فكانت النتيجة كوليرا بمعدّلات هائلة، وأكثر من 10 آلاف طن من الأسماك الملوّثة.
مشروع نبع الطاسة
تحت ستار حلّ أزمة المياه، ظَهَرَ مشروعٌ نبع الطاسة في منطقة إقليم التفّاح، تموّله اليونيسف وتغطّيه رسمياً مصلحة مياه لبنان الجنوبي. المشروع الذي يهدف في الظاهر إلى “استغلال فائض مياه الأمطار وإيصالها إلى بلدات تعاني نقص المياه”، خرجت منه سريعاً مؤشرات الفساد والصفقات وعدم حصر الأهداف باستغلال فائض المياه الشتويّ. فالمشروع لم يحصل على الموافقات الرسمية المطلوبة، وعلى رأسها دراسة الأثر البيئي التي تحمي المحيط البيئي للنبع.
وبعد اعتراض أهالي المنطقة على المشروع، سرَّعَت شركة حطّاب المتعهّدة تنفيذ المشروع، وتيرة عملها، وافتعلت إشكالاً مع الأهالي. ولم يمنعها قرار قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أحمد مزهر، بـ”وقف كل الأعمال الحاصلة حول مشروع نبع الطاسة فوراً”، من مواصلة العمل.
استكملت الشركة ومعها مصلحة المياه، الإجراءات القانونية المطلوبة، من دون التمكُّن من تبييض صورة المشروع. وعلى الأثر، وجّهت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، كتاباً إلى اليونيسف تطالب فيه بـ”وقف تمويل المشروع وإجراء تحقيق داخلي وعلني حول كيفية الموافقة على المشروع وتحديد المسؤوليات عن خرق القوانين اللبنانية وتجاوز أحكام قوانين البيئة والمياه والتسبّب بالنزاعات بين السكان وهدر الموارد البيئية في الجنوب اللبناني”.
مياه البحر أيضاً
زيادة معدّلات التلوث البكتيري الناتج بشكل رئيسي عن عدم معالجة مياه الصرف الصحي وتسرّبها إلى مياه البحر، مدعومة بعصارة مكبّات النفايات.. جعلت في الشاطىء بؤراً غير آمنة للسباحة وصيد الأسماك.
وخلال العام 2022، أظهرت الفحوص المخبرية التي أجراها “المركز الوطني لعلوم البحار”، التابع للمجلس الوطني للبحوث العلمية، وجود 24 موقعاً جيداً إلى جيد جداً للسباحة، من أصل 37 نقطة مرجعية يعتمدها المجلس لإجراء الفحوص البكتيرية في المياه.
وبيَّنَت النتائج وجود 7 مواقع ملوثة إلى ملوثة جداً بكميات كبيرة من البكتيريا البِرازية، أعلى من المسموح بها. إلى جانب 6 مواقع حذرة إلى حرجة وغير آمنة.
خطط إضافية
في محاولة نظرية للإنقاذ، اقترح وزير الطاقة والمياه وليد فيّاض ثلاث خطط “لتحسين الأداء في قطاع المياه”، وتقوم على “ضرورة تزويدنا بالديزل. أو استعمال الطاقة الشمسية. أو مد خطوط خدمات من مؤسسة كهرباء لبنان لمحطات ضخ المياه والأصول الأساسية بالقطاع”. وتشترك الخطط في ضرورة “زيادة عملية الاشتراكات والجباية وتحسين أداء الشبكة، لكي يكون لدينا استدامة مالية للقطاع”.
وإلى القاهرة، حَمَلَ فيّاض أزمة المياه، طالباً خلال مؤتمر حمل عنوان “المياه في قلب العمل المناخي”، حشد الطاقات لتنفيذ المشاريع بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، وبتمويل من “الحكومات والجهات المموّلة”.
خلاصة سلبية
تضع مصادر في قطاع المياه، ما شهده لبنان خلال العام الماضي، في سياق “مواصلة النهج المستمر. فما جرى خلال عام ليس منقطعاً عمّا جرى في اعوام سابقة وأدّى إلى صرف ملايين الدولارات بلا نتيجة”. والأصعب، وفق ما تقوله المصادر لـ”المدن”، هو “تدمير مؤسسات المياه لكي لا تقوم بعملها الصحيح، فتنتفي الحاجة لتفريخ مشاريع جانبية على غرار مشروع نبع الطاسة وقبله مشاريع السدود”.
أما محاولات الإصلاح والاقتراحات المقدَّمة من الجهات الرسمية، فـ”تأخَّرَت كثيراً، وبصورة متعمَّدة. لأن اليونيسف حذّرت في العام 2021 من أزمة مياه خطرة سيعيشها لبنان في العام 2022، ولم تفعل الجهات الرسمية شيئاً”.