في تعديل قانون السرية المصرفية أبقوا على حظر تسليم الحسابات الإسمية الضرورية لإجراء التحقيق
التضليل والتسويف ورفض تدخّل صندوق النقد لغايات باتت معروفة تعقّد الأمور وتضع البلد في المجهول
لا بد من التحقيق في الحسابات المشروعة وغير المشروعة وتحديد المسؤوليات واسترداد الأموال
لا بد من كشف الحقائق والمخالفات بغية تحديد المسؤوليات وإجراء المحاسبة على أساسها وتغيير الحوكمة
لا نخالنا نجهل أن معظم التدابير المطلوبة تعذّر تنفيذها لأسباب باتت معروفة للتهرب من المسؤولية
النية واضحة لإخفاء معالم «الجريمة» والإستمرار في تذويب ما تبقى من ودائع مشروعة وحماية المرتكبين
قام صندوق النقد الدولي منذ بداية الألفية الحالية بالأدوار الثلاثة الأساسية كافةً ولا سيما بالنسبة لعمليتي الإقراض والمشورة (المساعدة) في طور تنفيذ مقررات مؤتمري باريس 1 وباريس 2 كما قام بدوره التقليدي الأساسي أي التقييم والمشاورات واستصدار توصيات كجزء من المشاورات المنتظمة (السنوية في العادة) بمقتضى المادة الرابعة من إتفاقية تأسيس الصندوق.
وقد قام خبراء الصندوق بزيارة البلد بصورة معتادة لجمع البيانات الاقتصادية والمالية وعقد مناقشات مع المسؤولين في الحكومة والبنك المركزي حول السياسات الاقتصادية. وكان الفريق المعني يقدم بعد ذلك تقريراً إلى المجلس التنفيذي ينشر في شكل ملخص يصدره رئيس المجلس.
الدور المستجد
بمعزل عن المشاورات المنتظمة بمقتضى المادة الرابعة من إتفاقية تأسيس الصندوق ترسل البعثات وتجرى المشاورات في سياق طلب من بلد عضو باستخدام موارد الصندوق (أي الإقتراض منه). وهذا ما هو قائم حالياً بالنسبة للبنان بسبب الإنهيار الإقتصادي والمالي الذي استتبع أو ترافق مع إتهيار العملة ومخاطر بنيوية تهدد البلد والمحيط وتجعل منه دولة هشة مع خطر التحول إلى دولة فاشلة.
وعلى أساسه، فقد توصّل الوفد اللبناني المكلف من قبل مجلس الوزراء بالتفاوض مع بعثة صندوق النقد الدولي في نيسان 2022 إلى اتفاق مبدئي على برنامج تصحيح اقتصادي ومالي تحت اسم «التسهيل الائتماني الممدد» Extended Fund Facility مدته أربع سنوات. وهو يهدف إلى تحفيز النمو وتوفير فرص عمل ووضع لبنان على سكة التعافي والنهوض بعدما انكمش الاقتصاد خلال السنوات الثلاث الفائتة، وانهار سعر صرف الليرة، ووصل التضخم إلى مستويات عالية جداً، ووصل مستوى الفقر إلى حد لم يشهد لبنان له مثيلاً في تاريخه الحديث. ويعتمد هذا البرنامج على الركائز التالية:
ما هي ركائز الاتفاق؟
1 – توفير بيئة مؤاتية للنشاط الاقتصادي عبر إنجاز الإصلاحات الهيكلية الضرورية لاستعادة النمو وتأمين فرص عمل.
2 – إعادة هيكلة القطاع المصرفي ليتمكن من استعادة دوره في تمويل الاقتصاد.
3 – تحسين المالية العامة لتأمين استدامة الدين مع زيادة النفقات على القطاعات الاجتماعية والبنى التحتية وسيتعين الاعتراف بالخسائر في البداية والعمل على توزيعها، مع حماية صغار المودعين.
3 – إصلاح القطاع العام ومؤسساته، وخاصة قطاع الكهرباء لتأمين تغذية أفضل، ما يساعد في تخفيف الأعباء على المواطنين وإنعاش الحركة الاقتصادية.
4 – توحيد سعر الصرف لإزالة التشوهات في الاقتصاد.
5 – تحسين الحوكمة ومحاربة الفساد بمساعدة فنية من صندوق النقد الدولي.
إلا أن هذا الاتفاق يحتاج إلى موافقة إدارة الصندوق، وكذلك الحكومة اللبنانية ومجلس النواب، لا سيما في ما يتعلق بالقوانين الملحة الواجب إقرارها قبل الحصول على موافقة مجلس إدارة الصندوق على البرنامج بشكل نهائي. وتقترن هذه الموافقة النهائية بتنفيذ الشروط والتدابير المسبقة التي التزم لبنان بتنفيذها مسبقاً قبل توقيع الاتفاق النهائي. والشروط المسبقة الخمسة الأساسية هي:
5 شروط مسبقة
– تدقيق في مصرف لبنان.
– إقرار قانون الكابيتال كونترول.
– موافقة البرلمان على قانون موازنة 2022.
– إقرار تعديلات بنيوية على قانون السريّة المصرفية.
– إعداد وإقرار قانون إعادة هيكلة المصارف.
لا تنفيذ يذكر
مع العلم بأنه لم يصَر إلى تنفيذ إلا شرطين من هذه الشروط الأربعة وبشكل جزئي ومجتزأ كون موازنة 2022 ورغم إقرارها لم تفِ بالغرض وبقي التعويل على موازنة 2023 البعيدة المنال كما وأن القانون الذي عدّل قانون السرية المصرفية الذي أقرّه مجلس النواب بعد مخاضٍ عسير قد أبقى على حظر تسليم الحسابات الإسمية الضرورية لإجراء التحقيق بالحسابات المشروعة وتحديد المسؤوليات واسترداد الأموال.
تدابير ضرورية في الموازاة
بالإضافة إلى الشروط أعلاه تم التوافق على تنفيذ تدابير ملازمة بالموازاة وهي:
– موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية إعادة هيكلة البنوك مع حماية صغار المودعين والحد من الاستعانة بالموارد العامة.
– موافقة البرلمان على تشريع طارئ ملائم لتسوية الأوضاع المصرفية على النحو اللازم لتنفيذ استراتيجية إعادة هيكلة البنوك.
– الشروع في تقييم أكبر 14 مصرفاً، كل مصرف على حدة، بمساعدة خارجية من خلال تعيين شركة دولية مرموقة.
– تعديل قانون السرية المصرفية لمواءمته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد والإزالة الفعالة للعقبات أمام إعادة هيكلة القطاع المصرفي والرقابة عليه، وإدارة الضرائب، وكذلك الكشف عن الجرائم المالية والتحقيق فيها، واسترداد الأصول.
– الانتهاء من التدقيق بوضع الأصول الأجنبية لدى مصرف لبنان:
– موافقة مجلس الوزراء على استراتيجية متوسطة الأجل لإعادة هيكلة المالية العامة والدين، وهو أمر ضروري لإعادة الديون إلى مستوى يمكن الاستمرار في تحمله، وإرساء مصداقية السياسات الاقتصادية، وخلق حيز مالي للإنفاق الإضافي على البنود الاجتماعية وإعادة الإعمار.
– قيام مصرف لبنان بتوحيد أسعار الصرف.
لا نخالنا نجهل أن معظم هذه التدابير قد تعذّر تنفيذها لأسباب باتت معروفة وواضحة لجهة التهرب من المسؤولية والنية في إخفاء معالم «الجريمة» والإبقاء على الأمور بحالتها الحاضرة لتذويب ما تبقى من ودائع مشروعة وحماية المرتكبين.
ضرورة المساعدات المالية والتقنية
لبنان يحتاج إلى مساعدات ماليّة وتقنيّة كبيرة للتغلّب على الأزمة والبدء بجملة إصلاحات شاملة:
– تنظيم الماليّة العامّة وتحفيز الإيرادات؛
– إعادة هيكلة الدين العام؛
– إعادة تأهيل القطاع المصرفي وتنويع نشاطاته؛
– تحديث الاطار القانوني والمؤسّسي للبنك المركزي والسلطات المصرفيّة؛
– توحيد سعر الصرف وترشيد السياسة النقدية؛
– معالجة العجوزات في الحساب الجاري وحساب المدفوعات.
– توسيع شبكة الأمان الإجتماعي؛
– إصلاح الشركات المملوكة للدولة وتحسين الحَوكمة؛
– إصلاح إداري شامل وإعادة هيكلة الملاك؛
– تعزيز إستقلاليّة ونزاهة النظام القضائي وتحسين المُساءلة لا سيّما في القطاع العام؛
– تنفيذ قانون الشراء العام واستكمال إجراءاته بالموازاة مع قانون المنافسة.
مفترق طرق خطير
لبنان يقف حالياً عند مفترق طرق خطير، وبدون الإصلاحات الملحوظة السريعة سيغرق في أزمة لا نهاية لها مع استمرار تراجع الإمكانات الاقتصادية وبقاء مستويات البطالة والفقر مرتفعة واستمرار القيود التي تكبح الاقتصاد واستمرار نزيف الاحتياطيات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان وهبوط سعر الصرف والتضخم المتزايد مما يؤدي إلى تسارع مخاطر الدولرة النقدية المرتفعة وإزدياد الطابع غير الرسمي للاقتصاد، مما يقلص مجال تحصيل الضرائب ويفرض المزيد من القيود على الإنفاق من الموازنة العامة، مع زيادة مخاطر ترسخ الأنشطة غير المشروعة في الاقتصاد.
وهنا لا بد من السؤال والتساؤل عما إذا كان موضع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وكل ما سوف ينتجُ عنه ضروري وإلزامي لوضع البلد على المسار الصحيح كما يتم تظهيره أو أنه ما زال من الممكن، كما يقول البعض، إتباع مسارٍ آخر أقل ضراوةً يوصِلُنا الى نفسِ النتيجةِ ويوفرُ علينا العناءَ والتضحيات الجسام سيما وأن التمويل الموعود لا يتعدى 3 مليارات دولار أميركي على أربع سنوات ونحن قد أهدرنا ما يزيد عن الثلاثة وعشرين مليار دولار من الإحتياطي الإلزامي في أقل من اربع سنوات منذ إندلاع الأزمة ؟
وبما أن لا تمويل خارجياً ولا إستثمارات منتجة تعيد إطلاق العجلة الإقتصادية وخلق فرص عمل وتحفيز النمو وزيادة الإيرادات العامة لتحقيق المشاريع الإجتماعية والبنى التحتية الضرورية وإعادة الأموال والديون لأصحابها من دون إتفاق مع صندوق النقد الذي تعتمد على ضوئه الأخضر الجهات المانحة والمستثمرة فبداية النهاية تكون بإعادة وصل ما إنقطع مع صندوق النقد الدولي والدول الصديقة من خلال إستكمال تنفيذ الشروط التي حددها الإتفاق الأولي على مستوى الموظفين (Staff-Level Agreement) ومن ضمنها إقرار قانوني الكابيتال كونترول وإعادة هيكلة وتنظيم القطاع المصرفي بصورة محقة وفعالة ومنصفة بعيداً عن التذاكي مع إعادة التوازن للنظام المالي كما التدابير الملازمة. وهذا يحتمّ مقدماً أو بالموازاة وكشرط مسبق وأساسي لأي مسار إصلاحي وخطط تنفيذية للخروج من النفق المظلم، كشف الحقائق والمخالفات بغية تحديد المسؤوليات وإجراء المحاسبة على أساسها وتغيير الحوكمة.
أما الهروب إلى الأمام ومحاولة التضليل والتسويف ورفض تدخّل صندوق النقد الدولي لغايات باتت معروفة، فهذا يعقّد الأمور ويضع البلد في المجهول ويكون بمثابة نهاية البداية….
الإصلاح الضريبي
قدم صندوق النقد في بداية عام 2023 تقریر خیارات إصلاح السیاسة الضریبیة لوقف نزیف الإیرادات الآن وفي المدى القریب والانتقال إلى نظام ضریبي أكثر كفاءة وفعالیة وشمولاً في المدى المتوسط. ویركز التحلیل على ضرورة اعتماد رؤیة شاملة للنظام الضریبي تسترشد بھا الإصلاحات وتوازِن بین المفاضلات المختلفة، بدلاً من المنھج المجزأ القائم على تدابیر مخصصة وغیر منسقة. وهو يتضمن حزمة تدابير فورية كما وتدابير مكملة على المديين القصير والمتوسط:
1- التدابير الفورية (i) توحيد سعر الصرف وإعتماد سعر محدد سلفاً لا يكون أدنى من سعر منصة «صیرفة» + (ii) إعادة تحدید رسوم الاستھلاك وحدود التكلیف ذات القیم الاسمیة وربطھا بالتضخم كما وضريبة الدخل على الأجور + (iii) وقف المعاملة التفضیلیة المفرطة فی ما یتعلق بالضریبة على عائدات رأس المال وإلغاء الإعفاءات غير المجدية (تفرغ عن أسهم وعقارات كما وتوزيع الأرباح في الأوف شور والهولدنغ كما والعقارات الشاغرة) + (iv) الإنتقال إلى نظام الضريبة الموحدة على الدخل بدل الضرائب النوعية.
2- التدابير على المدى القصیر (i) توسیع قاعدة ضریبة القیمة المضافة وإلغاء الإعفاء المشوِّه سيما بالنسبة لنظام رد الضریبة للسائحین؛ (ii) إستخدام رسوم الاستھلاك بصورة أفضل لتخفیض الأثر السلبي البيئي والصحي حیث تحقق مزایا بیئیة وإیرادات ضريبية كبیرة؛ (ii) سد الثغرات في النظام الضريبي (ربح مقطوع/ربح حقيقي) وتحدیث ضریبة دخل الشركات مع إلغاء الأنظمة التفضيلية (الأوف شور والهولدنغ).
3- التدابير على المدى المتوسط وضع قانون جدید لضریبة الدخل یسعى إلى ضمان الحیاد الضریبي وحمایة القاعدة الضریبیة بترسانة من القواعد الحدیثة لمكافحة التحایل والتهرب الضریبيين + تحسین تصمیم القواعد المطبقة على المعاملات العابرة للحدود + استحداث نظام مبسط لمؤسسات الأعمال التي یقل دخلھا عن حد التكلیف بضریبة القیمة المضافة + توحید جداول المعدلات الضریبیة على الأجور وأنشطة الأعمال للأفراد + إجراء مراجعة دقیقة لحوافز قانون الاستثمار وإصلاحھا، وتبدیلھا بحوافز قائمة على التكلفة یبررھا تحلیل واضح للتكلفة والعائد + البدء في نشر تقاریر النفقات الضریبیة بانتظام + إستحداث قواعد قویة بشأن مصدر الدخل وقواعد للشركات الأجنبیة الخاضعة للسیطرة.