“الإستبلشمنت” اللبنانيّة ترتجف: رياض سلامة يعرف الكثير عنَّا!

لا نحتاج إلى كثير من الأدلة للتعرّف على وجود “إستبلشمنت” لبنانيّة، كحال أي مجتمع أو دولة أخرى. هي جزء من مراكز الحكم الرسميّة المعروفة، بمعنى السلطة التنفيذيّة التي نعرفها وتحدّدها القوانين، لكنّها لا تقتصر عليها.

هي مراكز النفوذ الراسخة في الحكم، والممتدّة في القضاء والعسكر والأمن والإعلام التقليدي والمصارف.. وفي جميع مراكز القوّة الحقيقيّة خارج الدولة ومؤسساتها الشرعيّة. هي أبعد من “المنظومة”، بالمعنى السياسي الذي راج مؤخّرًا، وأبعد من “السلطة”، بمعنى التوازنات التي تنتج العهود والحكومات المتعاقبة. في المنعطفات الحسّاسة والمصيريّة، كلحظة استجواب رياض سلامة اليوم، تتشابه هواجس وأولويّات الإستبلشمنت بمختلف عناصرها، بمعزل عن أي تباينات أخرى.

رياض الذي يعلم أكثر مما يجب
هو رياض سلامة، أكثر من يعرف، وربما أكثر مما يجب. هو الذي مرّت تحت يديه، في دهاليز المصرف المركزي، عمليّات الهندسات الماليّة، وما جرى على هامشها من صفقات ما زلنا حتّى اللحظة نجهل تفاصيلها. وهو الذي مرّت تحت يديه قروض المصارف في بدايات الانهيار، وما تبعها من تهريب لأموال وودائع.

وهو مفتاح الاعتمادات والتحويلات التي جرت في مرحلة الدعم، وما رافقها من تهريب لمصلحة تجّار لا يبعدون كثيرًا عن أركان الحكم، ولو هاجمته مرجعيّات هؤلاء السياسيّة اليوم. وهو من مرّت تحت يديه نفقات الدولة واعتمادتها وتحويلاتها، وهو من أعطى وبذخ في القروض المدعومة قبل 2019، وهو من رشّ الأموال على مؤسسات إعلاميّة وإعلاميين وهو.. وهو.. إلخ.

لا تنتهي قائمة مفاتيح المعلومات التي يملكها رياض سلامة. والإستبلشمنت أكثر من يعلم أنّ الرجل كان، ولا يزال، يملك مفتاح التوجّه إلى أوروبا لعقد صفقة قضائيّة شرعيّة، تنهي ملفّاته مقابل غرامات أو عقوبات ماليّة.. وربما معلومات أخرى.

معلومات قد تكون كافية لترشد النيابات العامّة في أوروبا باتجاه مئات الملفّات الدسمة، كملف شركة “فوري” بالضبط، وبعمليّات مرّت في مصارف غربيّة تمامًا كما مرّت عمليّات فوري. هي أمبراطوريّة تبييض الأموال التي أنشأتها مكاتب الخدمات الماليّة، التي لطالما قدّمت فرصة فتح الشركات الوهميّة في الجنّات الضريبيّة، والحسابات المصرفيّة في مصارف أوروبا. وفتح ملفّات تبييض الأموال، لن يستلزم أكثر من تحديد مصدر الأموال المشبوهة، في بيروت ومصارفها.

الخوف من الخارج: على سلامة أن يبقى هنا
الإستبلشمنت، أكثر من يعرف أن العين احمرّت عليها دوليًا، بعدما أطاحت –للمرّة الثانية على التوالي- بمفاوضات لبنان مع صندوق النقد الدولي وبرنامجه الموعود. وهي تعلم أن التلويح المتكرّر بالعقوبات يوازيه الحديث المتكرّر عن الإصلاحات، التي لا تحصل بسبب مصالح معروفة العنوان والوجهة. هي تعلم درجة الاحتقار الذي يكنّه أي مسؤول دولي لها، بعدما بات مصطلح “مخطط البونزي” يُعتمد في إصدارات رصينة لمؤسسة مرموقة بالبنك الدولي. بصورة أوضح، ثمة ما يكفي لتخشى هذه النخبة المرتكبة مما يعرفه سلامة، ومما يمكن أن تعرفه العواصم الأوروبيّة لاحقًا، ومما يمكن أن يُستخدم ضدّها –إما بالملفات القضائيّة أو بالابتزاز الضمني- في المرحلة اللاحقة.

ربما لهذا السبب بالتحديد، ومن بين جميع القرارات التي اتخذتها القاضية غادة عون، كان قرار منع سلامة من السفر هو القرار الوحيد الذي تم التعامل معه على نحو جدّي. لا يُريح أحد أن يسافر سلامة، ولا يطمئن بال أحد إذا فتح الرجل قنواته هناك بحريّة.. أو إذا ذهب ولم يعد، طوعًا أو بالإكراه.

والعبارة الأخيرة، ليست من وحي خيال كاتب هذه السطور، بل من وحي نقاشات جرت على أعلى المستويات بين “كبار” السلطات الدستوريّة الثلاث. وثمّة من كان يسأل مكاتب المحاماة جديًّا عن احتمالات توقيف سلامة في حال سفره، طالما أنّ التحقيقات لم تصل إلى مرحلة الادعاء.

وقد يكون كل ما سبق، هو ما يفسّر الأخبار –المضحكة بصراحة- التي اعتادت الحلقة المقرّبة من سلامة تسريبها لبعض الإعلاميين، عن وجود “USB” في “مكان ما بعيد وآمن”، تحوي “كل ما يعرفه الحاكم عن كل شي”. قد تكون هذه الطريقة البائسة والمثيرة للشفقة هي آخر ما يمكن أن يحمي به الرجل نفسه جسديًا، بعدما بات ما يعلمه خطِرًا على الجميع.

تحوّل في تعامل الاستبلشمنت مع رياض سلامة
في المراحل السابقة، كانت خطّة الاستبلشمنت هي الاحتواء. المماطلة، وشراء الوقت. رفضت النيابة العامّة في بيروت تقديم الادعاء، ثم تُرك الملف لينام على أكتاف طلب مخاصمة الدولة، وطال تأجيل الادعاء الرسمي. وعلى الهامش: كان يجري –بإتقان- تسخيف معطيات الملف إعلاميًا، والإيحاء بأن ما يتم الحديث عنه ليس سوى تداولات طبيعيّة بسندات اليوروبوند من قبل رجا سلامة. أو كما يحلو لبعض أصدقاء الحاكم القول: هي تجاوز “أخلاقي”، لكنّها ليست مخالفة قانونيّة أو اختلاس (؟).

لحظة استجواب سلامة اليوم، هي لحظة مفصليّة في هذا المسار. هي تحوّل في سياق التحقيقات، وفي ردّ فعل الإستبلشمنت أيضًا. هؤلاء، يعلمون جيّدًا أن القاضية الفرنسية التي تحقق في الملف ستترك منصبها في أيّار، وأنّها تنوي تقديم الادعاء على الحاكم قبل هذا الموعد، أي خلال شهر ونصف كحد أقصى. وهؤلاء، أكثر من يعلم أن القاضية تحتاج لمواجهة سلامة، وجهًا لوجه، للتمكّن من تقديم هذا الادعاء، أو على الأقل دعوته للاستجواب ولو لم يحضر. إذًا، لحظة الاستجواب اليوم هي اللحظة التي تمهّد للانتقال إلى مرحلة الادعاء، ومن بعدها الدخول في منطقة الخطر.

هذا بالضبط ما يفسّر استباق الاستبلشمنت لما جرى، بتقديم النيابة العامة في بيروت طلب الادعاء على سلامة مؤخّرًا، بعد طول تأجيل. إذا كان الرجل سيُعتقل في ملف شركة فوري، فالأفضل أن ينام في بيروت لا باريس. وإذا كان سلامة سيتكلّم، فالأفضل أن يتكلّم هنا لا هناك.

هل ظنّ أحد أن تحريك الملف وتقديم الادعاء، بعد تأجيل دام لأكثر من ثمانية أشهر، كان بسبب صحوة ضمير؟ أو بسبب تحريك الملف من قبل وفود التحقيق الأوروبيّة؟ هل ظنّ أحد أن طلب الادعاء جاء بضغط دولي؟ هل كنّا نظن أن الأوروبيين يكترثون أصلًا بوجود ادعاء في لبنان، إلى جانب الادعاء الذي سيجري أمام محاكمهم؟ قطعًا لا. ما جرى كان مجرّد استباق لمرحلة الخطر، التي بدأت للتو.

وعلى النحو نفسه، يمكن فهم تحرّك القاضية هيلينا اسكندر يوم أمس، رئيسة هيئة القضايا، التي طلبت من وزارة الماليّة الموافقة على الادعاء –بإسم الدولة اللبنانيّة- على حاكم مصرف لبنان بتهم الاختلاس وتبييض الأموال.. وغيرها من الموبقات التي حفظناها جميعًا (لا داعي للتكرار). مع الإشارة إلى أنّ اسكندر كانت قد تقاعست عن أداء هذا الدور منذ أكثر من سنتين، أي على مدى الفترة التي كثر فيها الحديث عن شركة فوري وعقدها المشبوه مع مصرف لبنان. باختصار، انتهت مرحلة تجاهل الملف، وجاء وقت تطويق سلامة محليًّا، قبل أن يطوّق في الخارج.

كل ما سبق، لم يكن سوى عيّنة من مسار طويل، احترفت فيه هذه النخبة السياسيّة والماليّة “شغل العصابات” و”اللوفكة”، كما يُقال العاميّة، تمامًا كما مارست الألاعيب نفسها في جميع الملفّات الماليّة. تغيّرت أهداف الإستبلشمنت اليوم. انتهت مرحلة حماية رياض سلامة، وبات هدف الإستبلشمنت اليوم منع رياض سلامة من الخروج والبوح، لا أكثر. هذا تحديدًا ما سيحرّك كل الأذرع الإعلاميّة والقضائيّة والسلطة التنفيذيّة ابتداءً من هذه اللحظة، لحظة استجواب رياض سلامة.

مصدرالمدن - علي نور الدين
المادة السابقةسلامة في قفص الاتهام والليرة في المجهول
المقالة القادمةSGBL يبتز مودعيه لإغلاق حساباتهم: خطوة استباقية لشطب الودائع!