الإستعصاء عن الإصلاح حكم مؤبّد على لبنان بالإنهيار

“يجترّ” المسؤولون السياسيون الحلول المليئة بـ”أشواك” التعطيل، التي سبق للبنان أن “زلطها” قبل عقدين بالتمام والكمال. “يجرّبون المجرب” بالرهان على التزام الأفرقاء أنفسهم، بالإصلاحات، مع فارق جوهري أن عقلهم ليس “مخرّباً”. همّهم، تقطيع المرحلة بحلول ترقيعية لا تصمد لسنوات قليلة، ولو كان الثمن تضييع مستقبل أجيال بأكملها، سواء شطبوا ديوناً أم باعوا أصولاً. فأحلى الخيارين في ظل حكم “المافيا”… سيبقى مرّاً.

هكذا فعلوا لتدارك الانهيار الشامل بعد العام 2000 من خلال التعهد أمام الدول المقرضة في مؤتمري باريس واحد (2001) وباريس 2 (2002) بإصلاحات جذرية. وبالفعل نجحت حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري آنذاك باتخاذ تدابير مالية وضريبية كان أهمها تعديل التعريفات الجمركية. رفع الدعم عن إنتاج السكر. إقرار الضريبة المهنية الثابتة، والضريبة الموحدة على الدخل في موازنة 2001، إضافة إلى TVA. وضبط السلف المالية من الخزينة، خصوصاً تلك المحولة إلى الكهرباء. الإعداد للقيام بإصلاحات هيكيلة كثيرة في قطاعات الطاقة، الاتصالات والطيران المدني. وقد أقرّ البرلمان في العام 2002 هيئاتها الناظمة، التي أصبحت “أشهر من نار على علم”. هذا بالإضافة طبعاً إلى سلة من الإصلاحات الإدارية التي تستهدف ترشيق الدولة. ونتيجة لهذه الوعود حصل لبنان على 500 مليون دولار من باريس واحد، وما مجموعه 9.7 مليارات دولار بعد عام في باريس 2. ولكنه طبعاً أخذ الأموال ولم يطبق الجزء الأهم من الإصلاحات.

تمييع الإصلاحات

قوانين الهيئات الناظمة بقيت حبراً على ورق لغاية اللحظة، ولم يجر تطبيق الضريبة المهنية الثابتة ولا الضريبة الموحدة على الدخل، واستمرّ التوسع في الإنفاق الجاري، وفشلت الموازنات اللاحقة في تمرير الإصلاحات التي كانت قد وافقت عليها كل الكتل النيابية سابقاً. وقد “أقرت مثلاً موازنة 2003 من دون معظم الإصلاحات الملحوظة في ذلك المشروع والتي جرى صرف النظر عن إقرارها، وحتى عن مناقشتها بسبب الحملة التي شنّت على رئيس الحكومة وفريقه السياسي”، بحسب ما يورد رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة في كتابه “الدين العام اللبناني التراكم والتأثيرات السلبية”. لافتاً إلى أنه “لا بد للقارئ ألا يستغرب ما حلّ بلبنان بعد ذلك بسبب استمرار تلك الممارسات المستهجنة حتى اليوم. ولا سيما مع استمرار مسلسل التضييع والإهدار من قبل الكثير ممن يتولّون إدارة الشأن العام. وهو ما لن يتغيّر إذا استمرّت حالة المراوحة والتلكّؤ والاستعصاء واللامبالاة، واستمرت أيضاً حال اختطاف الدولة اللبنانية من قبل قوى الأمر الواقع والأحزاب الميليشيوية والطائفية”.

تفريغ القوانين من مضمونها الإصلاحي

سلة الإصلاحات التي طُلبت لإعادة استنهاض الاقتصاد ابتداء من “مؤتمر أصدقاء لبنان في 16 كانون الاول 1996″، مروراً بـ”باريس 1 و2 و3″، ووصولاً إلى مؤتمر “سيدر” ما زالت هي نفسها. إلا أن الذي اختلف هو “حجم الخسائر الذي أصبح أكبر بما لا يقاس”، بحسب الخبير الاقتصادي د. أنيس بو دياب. و”الرهان لتحقيق هذه الإصلاحات لم يكن ولن يكون على المنظومة، إنما على تغيّر موقف المجتمع الدولي الذي وضع لبنان هذه المرة أمام حل من اثنين: إما البدء بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وإما الغرق في الانهيار إلى ما لا نهاية”. وعليه لم يعد هناك من مهرب إذا أردنا الخروج من الأزمة سالمين، ونيل دعم صندوق النقد الدولي إلا تطبيق الإصلاحات وليس فقط إقرارها”، يضيف بو دياب. فـ”لبنان لم يفقد خلال السنوات الماضية عاطفة المجتمع الدولي نتيجة استفحال مسؤوليه بالفساد، إنما أيضاً خسر علاقات رفيق الحريري وقدراته الاستقطابية للمساعدة على الساحتين العربية والدولية”. كل هذه العوامل تحتم على المسؤولين إقرار الإصلاحات وتنفيذها، لأن “البديل هذه المرة قد لا يكون مؤتمراً تأسيسياً جديداً كما يأمل البعض، إنما وضع لبنان تحت رعاية الأمم المتحدة”.

أكثر ما يخشاه المراقبون في عملية إقرار القوانين الإصلاحية تحت الضغط هو تفريغها من مضمونها أولاً وعدم تطبيقها ثانياً، لتلحق بقوانين الهيئات الناظمة المعلقة. فصحيح أن لبنان أقرّ خلال السنوات الخمس الأخيرة مجموعة من القوانين الإصلاحية مثل قانون مكافحة الفساد، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وقانون الشراء العام، وينتظر منه استكمال الإصلاحات بإقرار قانون تعديل السرية المصرفية وبقية القوانين المالية”، يقول بو دياب، “إلا أن العبرة تبقى في التنفيذ المرهون بالسلطة السياسية وعدم التحجج بالمراسيم التطبيقية”. و”لكن على ما يبدو فإن التنفيذ الفعلي مرتبط بوجود حكومة فعلية قادرة على اتخاذ القرارات والسير بها وهذا ما قد لا يبصر النور قبل نهاية العهد الحالي. وبالتالي فإن أحسن السيناريوات وأكثرها تفاؤلاً مؤجل إلى ما بعد العام 2022″.

أكبر الشرور

الاستعصاء عن الإصلاح الذي لا يختلف عليه اثنان، لم يكن ليستمر لو أبعدت الحكومة في العام 2001 “وقود” تثبيت سعر الصرف عن “حريق” الفساد المستعر. ولا سيما أن صندوق النقد الدولي أوصى في نيسان2001 عندما اجتمع مع الوفد اللبناني الرسمي في واشنطن، (ضم كلّاً من: رئيس الحكومة رفيق الحريري، وزير المالية فؤاد السنيورة، وزير الاقتصاد باسل فليحان وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة)، بضرورة اعتماد برنامج يتضمن تخفيضاً لسعر صرف الليرة اللبنانية. رفضت الحكومة اللبنانية الطلب، و”فوّتت على الاقتصاد فرصة تصحيح نفسه”، بحسب رئيس الجمعية الاقتصادية اللبنانية د. منير راشد. فسعر الصرف الحر يعمل مثل “البارومتر” فيكون مقياساً للسياسات الاقتصادية، ينخفض حين تكون فاشلة ويرتفع عندما تكون سليمة”. ومع الأسف فقد قضى لبنان على المؤشر الحقيقي لفاعلية السياسات الاقتصادية، وانتقل إلى سعر اصطناعي غير واقعي أعطى مختلف المؤشرات قيمة أعلى من قيمتها الحقيقية. فارتفعت الأجور وزادت أسعار العقارات وتحسّنت القدرة الشرائية… لكن في المقابل خسرت الصناعة اللبنانية قدرتها التنافسية على صعيد الإنتاج والخدمات، وخسر لبنان احتياطياته من العملة الأجنبية وارتفع العجز في الميزان التجاري”. وبحسب راشد فإن “العجز المالي في الدولة يقابله عجز في الحساب الجاري الذي يشكل جزءاً أساسياً من ميزان المدفوعات”.

سياسة تثبيت سعر الصرف تتطلب بحسب الاساسيات الاقتصادية توازناً في السياسة المالية، وموازنة من دون عجز ونسبة قليلة جداً من الديون. وهذا ما لم يكن لبنان قادراً على تحقيقه، في أي مرحلة من تاريخه”، برأي راشد. واستمر على الرغم من ذلك تثبيت سعر الصرف، مع العجوزات المهولة التي يحققها توأم العجز، العجز المالي وعجز الخزينة، والاعتماد على السياسات المالية التوسعية”.

لم يعد من مهرب أمام إصلاح سياسة الصرف، إضافة إلى بقية الإصلاحات المتدحرجة منذ العام 1996. ولم تعد المساعدات ولا الضرائب قادرة على ستر “عورة” الليرة المنهارة كما في العام 2001. ومع هذا فإن الثقة بإتمام الإصلاحات بشكل صحيح وتخلّي الأحزاب عن منافعها في الدولة، شبه معدومين، من قبل الداخل كما الخارج. قد يكون السبب تلوّع المواطنين من فساد المنظومة، أو أن سلوك الأخيرة التي تعمل وفق مقولة “من بعدي الطوفان” أصبح مفضوحاً.

مصدرنداء الوطن - خالد أبو شقرا
المادة السابقةإعادة العمل بمنصّة مواعيد طلبات جوازات السفر
المقالة القادمةوداعاً لإدارة المناقصات… أهلاً بهيئة الشراء العام!