بعدما اعتبر البعض أن المعوقات السياسية التي كانت تحول دون تحقيق الإصلاح، قد تبدّدت، بعد زوال الهيمنة الخارجية، وبدء عهد سيادي وحكومة إنقاذ وإصلاح، تبقى العبرة بالأداء والنتائج الملموسة وليس بالخطابات. فهل نحن على أبواب ورشة إصلاحية، تساهم في نقل البلد إلى مرحلة جديدة مختلفة عمّا كان سائداً في السابق؟
أُطلقت الدعوة الدولية للإصلاح في لبنان للمرة الأولى في «المؤتمر الدولي لإعادة إعمار لبنان»، الذي عُرِف بـ «باريس 1»، في العاصمة الفرنسية في 23 شباط 2001. هناك، جمعت النخبة السياسية 500 مليون يورو في شكل تعهّدات للمساعدة في تمويل مشاريع تدعم الاستقرار والنمو الاقتصادي المستدام. وتضاعفت هذه الجهود في قمة «باريس 2»، التي عُقدت أيضاً في باريس، في 23 تشرين الثاني 2002، والتي شهدت التزام 23 دولة وهيئة دولية بتقديم 4.2 مليارات يورو إضافية، بما في ذلك 1.3 مليار يورو خصيصاً مساعدات للمشاريع. استمرّت المساعدات في التدفق في اجتماع لاحق في ستوكهولم في 31 آب 2006 ، مع تخصيص 980 مليون دولار. ومع ذلك، لم يفعل تدفق الأموال هذا الكثير لتحفيز الإصلاحات السياسية والمالية في لبنان. استمرّت الحكومات المتعاقبة في إعطاء الأفضلية للمكاسب السياسية لمكوّناتها من أحزاب سياسية على حساب الوطن والمواطن. والجدير بالذكر أن المخاوف في شأن أداء السلطة النقدية في لبنان – مصرف لبنان المركزي – ظلّت غائبة. أصبح مصرف لبنان، الذي يقوده شخص واحد، الحاكم، بلا منازع، يرأس في الوقت نفسه كل فرع من فروع المركزي، بما في ذلك الهيئة المصرفية العليا، وهيئة الأسواق المالية، وهيئة التحقيق الخاصة، رمزاً للسلطة المركزية، حيث يقود الحاكم أيضاً بشكل فعّال لجنة الرقابة على المصارف في لبنان. كان مصرف لبنان مشهوداً له بأدائه المميز.
لم يفعل غياب الإصلاح سوى القليل لردع الدعم الدولي أو كبح ميل الطبقة الحاكمة اللبنانية إلى الفساد. في 25 كانون الثاني 2007، استضافت فرنسا «باريس 3»، بهدف التدقيق في حاجة لبنان ودعم السلطة السياسية لتصبح دولة متمكّنة في إدارة شؤونها، واحتياجاتها القطاعية، واقتصادها الكلي وصحته المالية، مع التركيز على إدارة الدين العام والدعوة إلى الإصلاح. اجتمع المجتمع الدولي مجدّداً، والذي تزايد عزمه على معالجة التحدّيات الداخلية في لبنان خصوصاً بعد حرب تموز 2006، لمناقشة سيادة الدولة وحكمها. ومع ذلك، فإن ما نوقش لم يتماشَ مع نوايا الحكومة اللبنانية. على الرغم من 7.6 مليارات دولار من المساعدات التي تمّ التعهّد بها والقروض الميسّرة، لم تكشف الحكومة اللبنانية – التي أصرّت على نخبتها السياسية منذ فترة طويلة – النقاب عن خطة إصلاح جديدة، مردّدة نتائج المؤتمرات السابقة.
لم يتعثر تصميم فرنسا والمجتمع الدولي، ولكنّ صبرهما على الوعود الفارغة قد تعثر. في مؤتمر «Conférence économique pour le développement, par les réformes et avec les entreprises» – سيدر – في باريس في 6 نيسان 2018، تمّ التعهّد بنحو 11 مليار دولار بشكل مشروط، متوقفاً على عرض الحكومة اللبنانية لإصلاحات ذات مصداقية. استغرق حلفاء لبنان ثمانية عشر عاماً لمواجهة الواقع الصارخ: الطبقة الحاكمة اللبنانية تعارض بشكل أساسي أي إصلاح قد يقلّل من نفوذها السياسي ومكاسبها الشخصية. قد يكون مؤتمر «سيدر» هو الموقف الأخير، حيث يقدّم عدد كبير من الدعم والوعود، التي تتوقف فقط على إظهار لبنان خطوات إصلاحية حقيقية. ورغم حاجة لبنان إلى المساعدة والتزام الأسرة الدولية الحقيقي لتقديم المساعدة، تمنّعت الطبقة السياسية الحاكمة عن إطلاق عجلة الإصلاح ولو في حدّه الأدنى؛ وعمداً فعلت ذلك.
منذ اندلاع الأزمة السياسية في تشرين الأول 2019، وما تبعها من اضطرابات اقتصادية وصحية وأمنية، ظلّ مصرف لبنان في دائرة الضوء، بينما واجه القطاع الخاص التحدّيات وتأقلم مع المتغيّرات التي عصفت بالبلاد. لقد أظهرت القطاعات الاقتصادية مثابرة تستحق التقدير في مواجهة أزمات خانقة. اليوم، يقف لبنان عند مفترق طرق حاسم، حيث يتناقض الجمود الحكومي بشكل صارخ مع صلابة النسيج الاقتصادي.
تسلُّم وسيم منصوري حاكمية مصرف لبنان بالإنابة في الأول من آب 2023، بموجب المادة 25 من قانون النقد والتسليف، لم يكن مجرد إجراء إداريّ، بل شكل تحوّلاً شبه استراتيجي في سياسات المصرف المركزي. إن اعتبار دوره موقتاً يقلل من أهمية الصلاحيات المخوّلة له، إذ يتمتع الحاكم بالإنابة بكامل صلاحيات الحاكم الأصيل وفقاً للقانون. واليوم، يقف منصوري أمام خيارات حاسمة لإنقاذ القطاع المالي من أزمته الخانقة دون الحاجة إلى تشريعات جديدة. تكمن إحدى الأولويات في إعادة تفعيل عمل لجنة الرقابة على المصارف، ليس فقط لاستعادة دورها السابق، بل بنسخة أكثر فاعلية وحداثة، تمهّد لإعادة الخدمات المصرفية كدعامة أساسية للاقتصاد.
يتمتّع منصوري بصلاحيات واسعة تتيح له مراجعة التعاميم المصرفية الإشكالية وتعديلها، وتعزيز الإطارين القانوني والتشغيلي للقطاع المصرفي. وتشكّل هذه الخطوة ركيزة أساسية في عملية تصويب الأداء في قطاع يرزح تحت وطأة تداعيات الانهيار المالي والسياسي. ومن الخطأ التأجيل «بانتظار تعيين حاكم أصيل!».
إعادة الثقة في القطاع المصرفي ضرورة ملحّة، وتتطلّب إجراءات ذات مصداقية تُقلّل من حجم الاقتصاد غير الرسمي وتحدّ من الاعتماد المفرط على المعاملات النقدية داخل البلاد. من بين هذه الخطوات الأساسية، إعادة تفعيل توطين الرواتب والأجور في الحسابات المصرفية، مع تقديم حوافز وتسهيلات لتشجيع هذه العملية.
يُعدّ التعميم الأساسي رقم 165 لمصرف لبنان خطوة حيوية في إعادة إنعاش القطاع المصرفي، إلى جانب تنفيذ التعميم الأساسي رقم 154، الذي يهدف إلى تقييم دقيق وشفاف للوضع المالي لكلّ مصرف تجاري ووضع خطة إنقاذ مناسبة. هذه التدابير ضرورية لمعالجة أزمة السيولة الراهنة واستعادة الاستقرار للقطاع المصرفي.
إلى جانب الإصلاحات المصرفية، يمكن لمصرف لبنان أن يؤدّي دوراً أساسياً في تخفيف الأعباء المعيشية. يعدّ الحفاظ على الاحتياطيات الإلزامية من العملة الأجنبية قضية جوهرية وحسّاسة، ويتطلب إدارة دقيقة وحاسمة. طرح فكرة التخلّي عن نسبة 14 % من التوظيفات الإلزامية بالدولار، مع ضمان عودتها إلى المودعين يُعدّ خطوة جريئة وضرورية.
الوضع المعيشي الحالي يفرض على مصرف لبنان، بالتعاون مع المصارف التجارية، إعادة توظيف هذه الإيداعات الإلزامية لصالح أصحابها، مع إعطاء الأولوية للمتقاعدين إن لم تتوفر السيولة للجميع. كذلك، يتطلّب الأمر تحديد سعر صرف عملي يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية، بما يتيح السحب من الحسابات غير المشمولة بالتعاميم 158 و 166 والتي كانت خاضعة للتعميم الأساسي 151 قبل انتهاء العمل به نهاية عام 2023. من شأن هذا الإجراء أن يخفف الضغوط الاجتماعية والمعيشية، فيما يُفضَّل اعتماد المعاملات الإلكترونية بدلاً من النقدية لتحقيق استقرار أكبر في السوق.
لا يمكن التقليل من أهمية هذه الخطوات في تصحيح المسار المصرفي. في ظلّ الفشل السياسي، سواء بسبب الفساد أو سوء الإدارة، وقع العبء الأكبر على عاتق القطاع الخاص اللبناني، من أفراد وشركات، وكذلك على المجلس المركزي لمصرف لبنان، الذي فُوِّض بإدارة الأزمة وعجز عن معالجتها لأن «إيد وحدة ما بتصفق». وبينما تواصل الطبقة الحاكمة تجاهل الحلول الجذرية، يبقى التعويل على إرادة القطاع الخاص اللبناني. ومع استعادة مصرف لبنان استقلاليّته، فإنّ إنقاذ القطاع المصرفي، بات ممكناً، شرط توفّر الإرادة لتنفيذ الخطوات المطلوبة لتصويب الأداء وصولاً إلى الإصلاح.