الإقتصاد السياسي في لبنان قائم على طلب القروض والمنح والمساعدات

نشرت «مبادرة سياسات الغد» دراسة بعنوان: « من قروض الحريري إلى عهد عون الجاف – تاريخ لبنان مع المساعدات الدولية»، جاء فيها أن المساعدات الإنمائية الدولية تشكل إحدى الركائز الأساسية للاقتصاد السياسي في لبنان بعد الحرب. وتهدف المساعدات الإنمائية التي تقدّمها عدّة وكالات دولية وحكومات ومؤسسات تابعة لها إلى توفير الدعم عندما تكون موارد الحكومات غير كافية. وقد قدّمت مجموعة كبيرة من الدول مليارات الدولارات للحكومة اللبنانية وإداراتها لدعم مختلف القطاعات الاقتصادية، لا سيّما لأغراض إعادة الإعمار، وتحسين البنية التحتية، وتعزيز المؤسسات الأمنية، ومنح المساعدات الإنسانية، وغيرها الكثير. وبالتالي، كان لهذه المبالغ المالية الضخمة تأثير مهم على الحياة السياسية المحلية، وتطوير المؤسسات الوطنية، وعلى أنماط الفساد والتواطؤ بالتأكيد، وغالباً ما ينطوي صرفها على شروط أكثر أو (في الكثير من الأحيان) أقل صرامةً. وفي ما يلي أبرز ما جاء في الدراسة:

***

هذه المقالة هي الأولى من بين سلسلةٍ ترمي إلى تحليل مجموعة بيانات جديدة حول جميع اتفاقيات القروض والمِنح التي وافقت عليها البرلمانات والحكومات اللبنانية المتعاقبة بعد الحرب الأهلية. مجموعة البيانات هذه التي جمعتها مبادرة «غربال» وأتاحتها بوفرة جميع المساعدات الدولية التي تمّ تسجيلها كقانون أو مرسوم ونُشرت في الجريدة الرسمية. غير أنها لا تشمل المِنح والمساعدات التي قُدّمت إلى المؤسسات غير الحكومية والتي لم تُسجّل في الجريدة الرسمية، أو تلك المقدّمة كمساهمات عينية وتبقى مستثناة حتى الآن. كما أننا لا نستطيع معرفة أي جزء من هذه المِنح والقروض تمّ صرفه أو سداده بشكلٍ مؤكد. وعلى الرغم من ذلك، توفّر مجموعة البيانات هذه نظرةً أوّليةً شاملةً حول الأنماط الي طلبت فيها الحكومات- وعرضت فيها الجهات المانحة- المساعدة الدولية.

إختلاف حسب الفترات الزمنية

نلاحظ أن المبالغ المقدّمة وعناصر اتفاقيات القروض والمِنح تختلف باختلاف الفترات الزمنية. ففي فترة ما بعد الحرب التي سيطر فيها رئيس الوزراء رفيق الحريري إلى حدٍ كبير، جاءت المساعدات الإنمائية في معظمها على شكل اتفاقيات قروض. أما الحكومات المتعاقبة بعد عام 2011، فقد طلبت حصصاً أكبر من المِنح غير القابلة للسداد، وتلقّت الحكومة بقيادة رئيس الوزراء تمام سلام الحصة الأكبر من هذه المِنح. واختلفت أشكال المساعدات أيضاً مع اختلاف الولايات الرئاسية. ففي عهد الرئيس ميشال عون مثلاً، حصل لبنان على مساعداتٍ أقل مقارنةً بالولايات الرئاسية الأخرى، حتّى أقل من تلك التي حصل عليها خلال الفترات التي سادها الفراغ الرئاسي. وبالتالي، يُشير هذا الانخفاض في التمويل إلى نقلة نوعية في المساعدات الدولية في السنوات الأخيرة. وفي ظل عدم استيفاء شروط المساعدات المالية وسط الشلل السياسي وعدم إحراز أي تقدّم فعلي من حيث الإصلاحات، حوّلت الجهات المانحة التمويل من المساعدة المالية إلى التبرعات العينية والدعم المباشر للمنظّمات غير الحكومية.

القروض والمنح على مدى 30 عاماً

وقّعت الحكومات اللبنانية المتعاقبة 714 اتفاقية بين عام 1991 وعام 2022 بلغت قيمتها نحو 22.6 مليار دولار (معدلة بحسب التضخم، وفق أسعار عام 2021) جاء 40% منها (أي 8.9 مليارات دولار) على شكل مِنح و60% منها (أي 13.7 مليار دولار) على شكل قروض. وفي حين أنّ عدد اتفاقيات القروض أقلّ من نصف عدد اتفاقيات المِنح، كانت مبالغ القروض أكبر في المتوسط، حيثُ بلغت قيمة أكبرها أكثر من 0.5 مليار دولار. وتُعدّ هذه المبالغ ضخمة بالنسبة إلى اقتصاد صغير مثل الاقتصاد اللبناني، إذ مثّلت أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في عامَي 1991 و2014، وأكثر من 6% في عامَي 1995 و2007.

تعكس الطريقة التي تُمنح بها المساعدات الإنمائية التطورات السياسية في تاريخ لبنان المتقلّب بعد الحرب. فثمّة خمس فتراتٍ مختلفة نال فيها لبنان المساعدات الدولية. تميّزت حقبة ما بعد الحرب وحتّى انسحاب القوات السورية في نيسان/أبريل 2005 بالاعتماد الشديد على القروض، ما يعكس نموذج النمو الذي اتّبعته الحكومات المتعاقبة في عهد رئيس الوزراء رفيق الحريري. ففي خلال تلك الفترة، طلب لبنان مساعداتٍ دولية تتجاوز قيمتها 7.6 مليارات دولار اتخذت نسبة 87% منها تقريباً شكل القروض. ووسّعت الحكومات المتعاقبة ما بعد الحرب محفظة اتفاقياتها في كلّ عام، ما أدّى إلى ارتفاع عدد الاتفاقيات باطراد من 6 اتفاقيات في عام 1992 إلى 40 اتفاقيةً في عام 2000.

منح أكثر بعد اغتيال الحريري

وفي الفترة الممتدة بين اغتيال الرئيس رفيق الحريري وثورة الأرز اللاحقة عام 2005 واندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011، برزت المساعدات على شكل مِنح بشكلٍ أكبر. وبلغت قيمة اتفاقيات القروض نحو 2 مليار دولار، يقابلها مبلغ مماثل وفّرته اتفاقيات المِنح. واستجابةً للصراع مع إسرائيل في عام 2006 بشكلٍ جزئي، تعهّدت الجهات المانحة بتقديم مِنح مختلفة لإعادة الإعمار وأيضاً للمساعدة الفنية في التنمية الإدارية.

عامل اللاجئين السوريين

وبعد عام 2011 وحتّى عام 2016 تقريباً، أصبحت القضايا الأمنية وأزمة اللاجئين تشكّل الشواغل الرئيسية في لبنان. وأدّت الكميات الكبيرة من المساعدات المقدّمة للجيش اللبناني بالإضافة إلى دعم الاستجابة لأزمة اللاجئين إلى زيادة حصّة المِنح إلى أكثر من ثلثي المساعدات الدولية الإجمالية. فخلال تلك الفترة، جرى التعهّد بتقديم أكثر من 8 مليارات دولار، على الرغم من الفترات الطويلة من الشلل السياسي.

تبدلت الأحوال بعد 2016

وفي عام 2016، تغيّر هذا النمط مرّةً أخرى بعد فراغٍ رئاسي دام عامين وسياسات «مصرف لبنان» التي كشفت عن الوضع المالي السيئ للدولة اللبنانية. فغيّرت الجهات المانحة الدولية موقفها وانتهجت مقاربةً أكثر صرامةً تجاه لبنان تقضي بتنفيذ الإصلاحات كشرطٍ مسبق لصرف المساعدات، وقامت بخفض المبلغ الإجمالي إلى ملياري دولار. فعلى سبيل المثال، لم يتمّ استيفاء الشروط لصرف المبالغ التي تمّ التعهد بتقديمها خلال مؤتمر «سيدر» المنعقد عام 2018، ممّا أدّى إلى صرف مبالغ قليلة جداً. وبعد التظاهرات الحاشدة واندلاع الأزمة المالية في عام 2019، خفّضت الجهات المانحة التزاماتها المالية مع مؤسسات الدولة إلى أقل من مليار دولار. بالتالي، ومع انخفاض عدد الاتفاقيات من 74 في عام 2014 إلى 3 فقط في عام 2020، تحوّلت المساعدات إلى عمليات المساعدة الإنسانية لمعالجة تداعيات الأزمة، مثل برنامج التحويلات النقدية الخاص بالبنك الدولي. كما باتت برامج الجهات المانحة «تتمحور حول الناس» وتهدف بشكلٍ متزايد إلى تقديم الدعم الموجّه على شكل مساهمات عينية أو دعمٍ مباشر للمؤسسات غير الحكومية. والجدير بالذكر أنّه على الرغم من تخلّف الحكومة عن السداد في عام 2020 والمخاطر الائتمانية الكبيرة المرتبطة بقدرة الخزانة على السداد، استمرت الجهات المانحة بتقديم القروض لقضايا ملحّة متنوعة بلغت قيمتها أكثر من 650 مليون دولار حتى عام 2022.

بين قروض الحريري ومنح سلام

يُنظر إلى شخص رئيس الوزراء على نطاق واسع على أنه عامل مهم في جذب المساعدات. ويمكن أن تكون جداول أعماله أو جداول أعمال حكومته متوافقةً إلى حدٍ ما مع أولويات الجهات المانحة الدولية، أو يمكن أن تكون لديه علاقات تسمح له بطلب المِنح والقروض بصفة شخصية. وبالفعل، لدى رؤساء الوزراء ورؤساء الجمهورية اللبنانية سجّل مختلط في طلب المِنح والقروض. وفي حين كانت حكومة رئيس الوزراء سلام هي الحكومة التي جذبت العدد الأكبر من المِنح التي وصلت قيمتها إلى أكثر من 5.1 مليارات دولار، قبلت الحكومات في عهد الرئيس رفيق الحريري المبلغ الأكبر من القروض، إذ وصلت قيمتها إلى نحو 5 مليارات دولار.

المعدل الوسطي الشهري

ومع ذلك، فإنّ تعديل هذه المبالغ بحسب الأشهر التي يقضيها رئيس الوزراء في منصبه يُظهر أن رؤساء الوزراء يختلفون أكثر من ناحية قدرتهم على التماس المِنح وليس القروض. فيتفوّق رئيس الوزراء سلام على جميع رؤساء الوزراء الآخرين من ناحية بطلبه مِنحاً قدرها 148 مليون دولار شهرياً أثناء شغله منصبه، أي أكثر من 4 أضعاف ما استطاع التماسه رئيس الوزراء فؤاد السنيورة الذي يحتل المركز الثاني. لكن الاختلافات بين رؤساء الوزراء أصغر بكثير من ناحية القروض. فباستثناء حكومة رئيس الوزراء الصلح بعد الحرب الأهلية، أنجز جميع رؤساء الوزراء اتفاقيات قروض تتراوح بين 25 و40 مليوناً شهرياً خلال عهدهم.

المساعدة مع أو من دون رئيس

في حين أن رئيس الوزراء هو المسؤول عن تحديد برنامج الحكومة، يُشارك رؤساء الجمهورية أيضاً في وضع الأولويات الاستراتيجية، لا سيّما في ما يتعلق بالعلاقات الدولية. وبالتالي، إن تحديد اتفاقيات المساعدات التي أبرمها رؤساء الجمهورية اللبنانية يُظهر صورةً متناقضة بالقدر نفسه. ففي عهد الرئيس ميشال سليمان (2008-2014)، تمكّنت الحكومات اللبنانية من طلب أكثر من 4 مليارات دولار على شكل مِنح، أي أكثر من جميع الفترات الرئاسية الأخرى. وخلال ولاية الرئيس الهراوي (1989-1998) وولاية الرئيس لحود (1998-2007)، وقّعت الحكومات على معظم اتفاقيات القروض. ولكن خلال ولاية الرئيس ميشال عون (2016-2022)، طلبت الحكومات مساعدات دولية أقل ولا سيّما القليل من المساعدات على شكل مِنح. وبناءً على ذلك، بلغت نسبة القروض إلى المِنح أكثر من 80% تقريباً كما كانت خلال فترة ولاية الرئيس الياس الهراوي بعد الحرب الأهلية (90% تقريباً). وعلى الرغم من أنّ الحكومات هي حكومات تصريف أعمال فحسب في ظل الفراغ الرئاسي، تمكنت من توقيع اتفاقيات تصل قيمتها إلى أكثر من 3.5 مليارات دولار في غياب رؤساء الجمهورية.

لا قدرة على الوفاء بالشروط اللازمة

نظراً لأهمية المساعدات الإنمائية الدولية التي تُقدّم إلى الاقتصاد السياسي في لبنان، تعكس القروض والمِنح الواردة تاريخ لبنان المتقلّب بعد الحرب الأهلية. واليوم، في سياق الأزمة، ستكون المساعدات الدولية أكثر أهميةً من أي وقتٍ مضى لتوفير الموارد التي ستفتقر إليها مجالات عديدة أخرى. ووسط الشلل السياسي الذي طال أمده والمخاوف بشأن الفساد وسوء إدارة الأموال، من المرجّح أن يظل سياسيو لبنان ونخبته غير قادرين أو غير راغبين في الوفاء بالشروط اللازمة لصرف المساعدات التي يمكن أن تضاهي المستويات السابقة وتساعد في معالجة التداعيات الفادحة للأزمات الحالية اليوم.

مصدرنداء الوطن
المادة السابقةالحماية الإجتماعية ممكنة… و”السلطة” ترفضها!
المقالة القادمةالعائلات تئنّ: السفرة تكلّف 4 ملايين!