مع انتهاء فصل الصيف وسفر المغتربين، تبدأ الأسئلة. فرغم أن ارتفاع وتيرة النشاط الاقتصادي خلال فصل الصيف هو حالة موسمية تتكرر كل عام، إلى أي مدى وإلى متى سيستمر تأثيرها الإيجابي هذا العام؟ ورغم شبه الاستقرار في «سلة أسعار الصرف» خلال الصيف، إلى متى يمكن الحفاظ على هذا الاستقرار في غياب البدء بأي إصلاحيات إقتصادية ومالية جدية؟ يؤكد مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية ان الاقتصاد اللبناني يشهد انقساماً عمودياً بين جهتين: جهة استهلاكية ذات قدرة شرائية مرتفعة جداً ممن يملكون «الدولار الفريش»، وجهة ما زالت تتخبط لتحافظ على الحد الأدنى من العيش الكريم بالتوازي مع استمرار غلاء الأسعار حتى بعد التطبيق شبه الكامل للدولرة في المعاملات التجارية، وهم الفئات التي ما زالت تقبض رواتبها بالليرة اللبنانية أو ذات الدخل المحدود والمنخفض. ولتبسيط الأمر، كأننا أمام اقتصادَين في آن واحد، مما يعني أن النمو الاقتصادي حالياً هو على شكل حرف K، أي يأخذ مسارين منفصلين ومختلفَي المواصفات. فهل هذا هو المسار الصحيح للتعافي الشامل والمتكامل والمستدام؟
ماذا يعني K؟
وقال تقرير المرصد: تجدر الإشارة الى أن الحديث عن التعافي على شكل حرف K (ما يعرف بـ K-shape recovery) بدأ مع عودة الأنشطة الاقتصادية للدول بعد جائحة كوفيد-19، حيث أن الدول ذات الكفاءة التكنولوجية العالية إعتمدتها في نموذج تعافيها فحققت تعافياً أسرع وأفضل من الدول التي لا تمتلك موارد وكفاءة تكنولوجية عالية. فالأنشطة الاقتصادية والتنموية المتركزة على التكنولوجيا شكلت نسبة أكبر من حجم الناتج المحلي الإجمالي للدول، وساهمت بتحقيق تدفقات مالية جديدة وبتعزيز الشمولية والإندماج في التعافي الاقتصادي لمعظم شرائح المجتمع. وهذا التفاوت بين الدول عمّق حجم الهوة بين المجتمعات الغنية والمجتمعات الفقيرة.
لا استدامة
وإسقاطاً لهذا التفسير على الوضع الاقتصادي الراهن في لبنان، ووفق الدكتور وليد مروش، بروفسور في العلوم الاقتصادية لدى الجامعة اللبنانية الأميركية، Walid Marrouch فإن نموذج النمو الاقتصادي الذي شهده لبنان مؤخراً، وخصوصاً خلال فصل الصيف مع عودة المغتربين وبعض السائحين، يفتقد الى مقومات الاستدامة. وعلى وجه التحديد، يرى الدكتور مروش أن هذه المقومات قد تم هدمها، خصوصاً ما يتعلق بتراكم الثروات وقنوات استخدامها عبر القطاع المصرفي، مع استمرار انعدام الثقة بالقطاع المصرفي، بالتوازي مع عدم نضوج أي مسار لإعادة هيكلته عما قريب. وفي المقابل، إن المسار الاقتصادي السليم للنمو يحتم وجود نظام مصرفي صحي يمأسس لإستخدام المدخرات لتمويل المشاريع الاستثمارية والمجدية إقتصادياً وتنموياً. أما واقع الحال، فمن الملاحظ أن الأموال الجديدة بالعملات الأجنبية الداخلة الى الدورة الاقتصادية المحلية، سواء عبر عائدات السياحة أو تحويلات المغتربين، يعود تدويرها الى الخارج عبر الاستيراد، بالإضافة الى اعتماد قسم كبير من الشركات وأصحاب الاعمال على تحويل أرباحهم الى حسابات مصرفية خارج لبنان. وهذه الممارسات تعكس تقلصاً مستمراً في قيمة تراكم الثروات وفق معايير الاقتصاد الرسمي السليم.
لا مضاعفة تأثير
وعلى صعيد الشركات، يؤكد المرصد انه رغم إزدهار بعض المشاريع الاستثمارية الجديدة خلال الأشهر القليلة الماضية، غير أن تأثيرها على النمو الاقتصادي لن يكون بالقدر الذي كانت عليه في السنوات قبل حدوث الأزمة في تشرين الأول 2019، وفق الدكتور مروش. ويعود ذلك الى الضعف الكبير في قدرتها على مضاعفة التأثير «multiplier effect» في الأوضاع الراهنة مقارنة مع ما قبل الأزمة بسبب «إهتراء مقومات البيئة الاستثمارية والقدرة الاستهلاكية في الاقتصاد المحلي والتحوّل بحكم الأمر الواقع الى الاقتصاد النقدي». ويعلل ذلك الدكتور مروش بأن «القدرة على مضاعفة تأثير تدفق رأس المال الى الاقتصاد تحتاج الى توفر قنوات وآليات للإدخار والتمويل عبر المصارف والأسواق المالية، بما يسمح بتراكم الثروات وتسهيل حصول المستثمرين على التمويل مع إمكانية الدفع المؤجل للمستحقات، في حين أن الاقتصاد النقدي يلزم توفر التمويل الكافي لإجراء أي عملية تجارية لأن إستحقاقها يكون مباشرة».
الحفاظ على المظهر الإجتماعي
أما على الصعيد الفردي، فإن توقف الإدخار لا سيما طويل المدى في المصارف بسبب إنعدام الثقة بالقطاع، وزيادة قيمة الإستهلاك بسبب الغلاء والتضخم في الأسعار لا سيما في إطار ممارسات الاقتصاد النقدي وتعدد أسعار الصرف المعتمدة، أدّيا الى تراجع كبير في إجمالي المدخرات في النظام الاقتصادي الرسمي. وتحوّل الناس الى القيام بمشاريع استثمارية صغيرة ومتفرقة لتشغيل أموالهم، أو توجهوا نحو الاستهلاك الفردي عبر شراء سلع كمالية منخفضة الثمن، وربما الجودة والنوعية، للحفاظ على مظهرهم الاجتماعي رغم خسارة أموالهم جراء الأزمة، وهو ما يعرف بـ «lipstick effect».
إتساع حجة الهوة
ويؤكد الدكتور وليد مروش أن الاقتصاد النقدي هو «رديف للفقر ويعكس تعافياً كاذباً للإقتصاد»، لأنه يكبّر حجم الهوة بين من يملك المال ومن لا يملك المال – وهذا الأخير لا يمكنه أيضاً الاستدانة وفق القنوات المصرفية والاستثمارية السليمة. ورغم أن النشاط الاقتصادي خلال فصل الصيف قد أوجد بعض عناصر للتفاؤل غير انها غير مستدامة علمياً. فالمردود الإجمالي للإستثمار والاستهلاك على الاقتصاد المحلي ليس بالزخم الذي كان عليه قبل الأزمة لناحية إعادة توزيع الثروات والحفاظ على القدرة الشرائية خصوصاً للطبقة الوسطى والميسورين وذوي الدخل المحدود.
إشارات الصيف خاطئة
وعلى صعيد آخر، أرسل الانتعاش في النشاط الاقتصادي خلال هذا الصيف إشارات خاطئة لأصحاب الشركات والأنشطة الإنتاجية والخدمية لناحية توجههم للتسعير وفق الأسعار العالمية – على أنها تنافسية أو تجذب طبقة معينة من الأغنياء. لكن هذا الأمر هو موقت لان القدرة الشرائية والمعيشية لمعظم اللبنانيين أصبحت أقل بكثير مما كانت عليه عام 2019 – ما يعني أن هذه الأنشطة الأعمالية لن تستطيع جذب هذه الطبقة من الناس بعد انقضاء عطلة الصيف. وبالتالي سيكون لزاماً عليهم إما الإقفال أو إعادة هيكلة نموذج عملهم ليتوافق مع الأنماط المستجدة للإستهلاك الداخلي.
هذه التطورات تشير الى أن التعافي الاقتصادي والتنموي الشامل، وانعكاساته الإيجابية على معيشة الناس، لا يبدأ مساره الصحيح إلا بتطبيق إصلاحات هيكلية ومالية وقطاعية ونقدية وفق ما تقتضيه أدبيات الاقتصاد.