شهد قطاع الخدمات المالية خلال العقد الماضي ازدهارًا كبيرًا للابتكارات التكنولوجية، حيث ظهرت شركات تكنولوجيا مالية جديدة، تقدّم منصات رقمية كبيرة في مجال خدمات الدفع والإقراض، وتزايدت قيمة الأصول الرقمية والعملات الرقمية المستقرّة، كما تبنى العديد من المؤسسات الذكاء الاصطناعي. كلّ هذا يمثل تحدّيًا للوسطاء الماليين التقليديين، كالبنوك وشركات التأمين ومديري الأصول، والخدمات التي يقدّمونها.
يمكن للابتكارات الرقمية أن تكمل الخدمات في النظام المالي التقليديّ أو أن تحلّ محلّها. يبدو العديد من الخدمات بديلًا جذريًا للخدمات الحالية على المدى القصير، ولكن على المدى المتوسط، غالبًا ما يكمل الخدمات الحالية، ما يؤدي إلى مزيد من المنافسة ونظام مالي أكثر تنوّعًا. مع ذلك، لا يضمن الابتكار بالضرورة نتائج إيجابية، فقد تحدث بعض المشاكل. ولتحقيق أقصى استفادة من الابتكار الرقمي، غالبًا ما يتطلّب الأمر سياسات عامة مدروسة.
التحوّل في أنظمة الدفع
يشكّل الدفع بوّابة الخدمات المالية، فالحساب المصرفي ضروري بالنسبة للأفراد للوصول إلى خدمات الائتمان، أو شراء وثيقة تأمين، أو بدء الادّخار والاستثمار. أما بالنسبة للشركات الجديدة في هذا المجال، كشركات التكنولوجيا المالية والمنصّات الرقمية الكبرى، فغالبًا ما تبدأ بخدمات الدفع ثمّ تتوسّع في مجالات أخرى.
خلال العقد الماضي، تغيّرت طرق الدفع بشكل كبير، حيث انتشرت أنظمة الدفع السريع في العديد من الدول، وخاصة الأسواق الناشئة. تسمح هذه الأنظمة بتحويل الأموال في الوقت الفعلي (أو تقريبًا في الوقت الفعلي) بين المستخدمين.
توفر شركات التكنولوجيا المالية والشركات التقنية الكبرى والشركات المصرفية التقليدية خدمات دفع سريعة على مدار الساعة. تستخدم هذه الخدمات تطبيقات الهواتف الذكية و (QR)، حتى على الهواتف ذات التقنية البسيطة. وقد مكّنت هذه الخدمات روّاد الأعمال من تقديم خدمات تنافسية مباشرة للشركات القائمة.
تأتي أبرز قصص النجاح من البنى التحتية العامة، مثل الأنظمة التي يديرها أو تشرف عليها البنوك المركزية. في البرازيل، على سبيل المثال، أطلق البنك المركزي نظام الدفع السريع “بيكس” في تشرين الثاني 2020. والآن، يستخدم أكثر من 90 % من البرازيليين هذا النظام للدفع اليومي، كالمشتريات أو السفر، وحتى للدفع الدوري كالفواتير. وفي الهند، يعزّز نظام “واجهة الدفع الموحّدة” (UPI)، الذي تديره شركة الدفع الوطنية الهندية ويشرف عليه البنك المركزي، خدمات البنوك التقليدية وشركات التكنولوجيا المالية والشركات التقنية الكبرى على منصّة واحدة. ومن الأمثلة المشابهة نظام “برومبت باي” في تايلاند، الذي يديره القطاع الخاص تحت إشراف البنك المركزي، ونظام “سينبي موبيل” في كوستاريكا، الذي يديره البنك المركزي.
تتباين البنى التحتية العامة الناجحة في العديد من الاقتصادات التي توجد فيها أنظمة دفع سريعة متعدّدة في القطاع الخاص، غير متوافقة مع أنظمة المؤسّسات المالية الأخرى. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا يمكن لمستخدم تطبيق “فينمو” الدفع عبر تطبيق “زيل”. وقد ظهرت أنظمة مماثلة في الصين، مع تطبيقات دفع منافسة مثل “آليباي” و “وي تشات باي”، وفي بيرو، ظهرت تطبيقات “يابي” و “بلين”. وفي الصين وبيرو، كان التدخل الحكوميّ ضروريًا لضمان التوافق بين أنظمة الدفع.
غالبا ما تساهم هذه الخدمات الجديدة في تعزيز الخدمات القائمة في السوق. يحصل المستخدمون على خدمات دفع أسرع وأرخص، ما يعزّز الاستقرار المالي ويساهم في النموّ الاقتصادي. تساعد هذه الخدمات، إلى جانب السياسات العامة، في تحسين النظام، وتلبية احتياجات العملاء الجدد، وتقديم خدمات جديدة، ودفع الشركات القائمة إلى تحسين خدماتها.
نظام الائتمان
بالتوازي مع خدمات الدفع، تبرز الحاجة إلى الائتمان. فالشركات بحاجة إلى تمويل استثماراتها الإنتاجية، بينما يحتاج الأفراد إلى الائتمان لشراء منزل أو سيارة أو تغطية نفقات التعليم.
في بدايات ثورة التكنولوجيا المالية، بدا أن منصات التمويل الجديدة قادرة على استبدال العديد من وظائف البنوك. نمت منصات التمويل الجماعي وغيرها من منصات الائتمان بسرعة، مستخدمة بيانات بديلة لتقييم الائتمان، وموفرة خدمات سريعة وسهلة للمقترضين والمقرضين. لكن هذا التطوّر سرعان ما تراجع أمام خدمات التمويل التي قدّمتها شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل خدمة تمويل التجار من “أمازون” في الولايات المتحدة و “ألي بابا” في الصين. وقد شهد حجم هذه الخدمات نموًا كبيرًا.
ساهمت المنصات الجديدة في تقليص فجوات التمويل وتعزيز الشمول المالي. ففي الأرجنتين، على سبيل المثال، قدّمت شركة Mercado Pago الدعم للتجار الصغار الذين رفضتهم البنوك. وفي الصين، كان الائتمان المقدّم من شركات التكنولوجيا أقلّ تأثرًا بتغيّرات أسعار العقارات مقارنة بالائتمان البنكي، ما قد يقلّل من أهمية الضمانات. أما في الولايات المتحدة، فقد استهدفت شركات التمويل الصغيرة مناطق ذات معدلات بطالة وإفلاس مرتفعة، حيث يقلّ احتمال حصولها على تمويل من البنوك. بشكل عام، يختلف تأثير التكنولوجيا المالية والشركات الكبرى من دولة إلى أخرى.
لكن البنوك لا تزال حاضرة بقوة، وتتنافس الآن مع مجموعة جديدة من الوسطاء. فقد غيّرت البنوك نماذج أعمالها لتصبح أكثر تشابهًا مع المنصات، واستخدمت البيانات البديلة. من ناحية أخرى، حصلت العديد من الشركات الناشئة، مثل Revolut في المملكة المتحدة و Nubank في البرازيل، على تراخيص وأصبحت بنوكًا.
عملات رقمية وتمويل لامركزي
بينما تتحدّى شركات التكنولوجيا الكبرى المؤسسات المالية التقليدية، تعِد العملات الرقمية والتمويل اللامركزي بإعادة تعريف النظام المالي.
يعتمد هذا النظام على الثقة في “الكود” البرمجي بدلًا من الثقة في المؤسسات. ويشهد اعتماد العملات الرقمية عالميًا نموًّا متزايدًا، على الرغم من تاريخها الطويل من التقلّبات، وذلك لأغراض الاستثمار بالمضاربة في المقام الأول، بالإضافة إلى الدعم السياسي لهذه الأصول في بعض الدول.
وكان من المفترض أن تعزّز العملات الرقمية اللامركزية، لكنها لم تحقق هذا الهدف. فوجود منصات تداول العملات الرقمية، والبنوك التقليدية، وصناديق الاستثمار، وغيرها من الجهات في هذه السوق، يعني أن السوق لا تزال مركزية في الغالب. والأهم من ذلك، أن العملات الرقمية غير المدعومة غالبًا ما تكون ذات استخدام محدود بسبب تقلّباتها الشديدة.
ظهرت العملات المستقرّة، التي ترتبط قيمتها بالعملات الورقية التي تنافسها كبديل. تصدر كبرى العملات المستقرة من كيانات مركزية تمتلك أصولًا مثل سندات الخزانة الأميركية والودائع المصرفية لضمان استقرار قيمة هذه العملات. ولكن حتى مع وجود هذه الوساطة الجديدة، ومع انتشار العملات المستقرّة، لا يزال قطاع العملات الرقمية مليئًا بالمخاطر، بما في ذلك الاحتيال المالي وغسل الأموال وتمويل الإرهاب. بالإضافة إلى ذلك، لا توفر العملات المستقرّة المرونة اللازمة في النظام النقديّ. وبما أن أكثر من 98 % من قيمة العملات المستقرة مرتبطة بالدولار الأميركي، فإنها قد تضعف السيادة النقدية في العديد من الدول.
توجيه الابتكار
غيّرت هذه الابتكارات الجذرية النظام المالي بشكل كبير خلال العقد الماضي. غالبًا ما تطوّرت التحدّيات التي كانت تهدّد استبدال الخدمات الحالية بخدمات جديدة تكملها، ما يعزّز المنافسة. وبشكل عام، ساهم ذلك في خفض الأسعار بالنسبة إلى المستهلكين وحسّن كفاءة الخدمات. لكن الابتكار وحده لا يكفي دائمًا لتحقيق أفضل النتائج.
سمحت السياسات العامة الرائدة بتحقيق أهم الإنجازات. وكان اعتماد الدفع السريع، والتقدّم الكبير في الوصول إلى حسابات الدفع، ممكنًا بفضل التفاعل بين البنية التحتية للقطاع العام والابتكار في القطاع الخاص. ساهمت الخطوات الاستباقية التي اتخذتها السلطات العامة، حتى في مواجهة بعض المتردّدين في البداية، في تحسين خدمات الدفع وتعزيز الشمول المالي، كما يتضح جليًا من تجربة نظام UPI في الهند ونظام PIX في البرازيل. وقد ساهم ذلك في إدراج مئات الملايين من الأشخاص في النظام المالي العالمي.
وفي الوقت نفسه، تبرز مخاطر ناجمة عن الابتكار، والتي قد تهدّد الاستقرار المالي. فمثلًا، قد تنتقل الصدمات من قطاع العملات الرقمية إلى النظام المالي التقليدي، بل وقد تشكّل خطرًا على سوق سندات الخزانة الأميركية.
للاستفادة من إمكانات الابتكار ومعالجة المخاطر، لا بدّ من تبني أفكار جديدة ومبتكرة، ولكن هذا وحده لا يكفي. كما يتطلّب الأمر بناء البنية التحتية اللازمة، وتنظيمًا فعّالًا، وإجراء تجارب عملية في القطاعين العام والخاص لجمع البيانات وتحليلها، ما يساهم في توجيه الاستثمارات الخاصة وصياغة السياسات العامة. وأخيرًا، يحتاج القطاعان العام والخاص إلى التنسيق والتعاون لتوجيه التقنيات الرقمية نحو تطبيقات تُفيد الأفراد والشركات على حدّ سواء، وترسّخ أسس الازدهار الاقتصادي. ومن الأمثلة الحديثة على هذا النوع من التنسيق مشروع “أغورا” الذي يجمع البنوك المركزية والبنوك التجارية لاستكشاف نظام بيانات موحّد للاستفادة من تقنية التشفير في عمليات الدفع عبر الحدود.



