قد يكون ادعاء النيابة العامة المالية في ديوان المحاسبة على «أوجيرو»، واحدةً من أبرز الإشكاليات القانونية، إذ إن الادعاء استند إلى مخالفة للمادة 21 من قانون سلسلة الرتب والرواتب التي تمنع «جميع حالات التوظيف»، فيما استندت «أوجيرو»، لاستخدام المياومين، إلى قانون إنشائها الذي يمنحها استقلالاً مالياً وإدارياً يعزلها نسبياً عن المادة المذكورة. هذه الإشكالية برزت في سياق التهافت السياسي على التوظيف الحاصل قبل الانتخابات النيابية، ما يلغي حقيقة الصراع القانوني على التوظيف، بل تصبح واحداً من أبرز تجليات الزبائنية!
فور صدور قرارات الملاحقة بحق رئيس هيئة «أوجيرو» عماد كريدية وعضوي الهيئة غسان ضاهر وهادي أبو فرحات، تسرّب الخبر من مكتب المدعي العام المالي القاضي فوزي خميس، مشيراً إلى ملاحقة كريدية وضاهر وأبو فرحات «لمخالفتهم أصول التوظيف المرعية الإجراء، وملاحقة كريدية لامتناعه عن إيداع النيابة العامة المستندات والإيضاحات المطلوبة منه». كذلك تضمن الخبر المسرّب أنه تم الادعاء على 463 موظفاً ممّن وُظفوا خلافاً للقانون بعد آب 2017، من بينهم 453 في «أوجيرو»، واثنان في المديرية العامة للحبوب والشمندر السكري، وثلاثة في وزارة الثقافة، وأربعة في مديرية اليانصيب الوطني اللبناني.
وقد استحوذت «أوجيرو» على الاهتمام الأكبر نظراً الى أن ملف التوظيف فيها كان مفتوحاً في البازار السياسي العلني ثم انتقل إلى لجنة المال والموازنة، ولأن عدد المياومين المعينين فيها هو الأكبر. خلفية هذا النقاش كانت مع بدء النقاش في مشروع موازنة 2019. فإزاء ما قيل عن انتفاخ في كلفة القطاع العام بسبب التوظيفات الإضافية المخالفة للمادة 21 من قانون سلسلة الرتب والرواتب 46، قررت غالبية القوى السياسية غسل يديها من الضغوط التي مارستها بهدف نيل حصّة من التوظيفات ذات الطابع الزبائني، وبالتالي رفع مسؤوليتها عن زيادة كلفة القطاع العام على الخزينة، وربما كان الهدف خفض عجز الخزينة من خلال فرض اقتطاع نسبته 15% على موظفي القطاع العام.
من هذا الباب، فُتح ملف توظيف المياومين في «أوجيرو». لم تنف الهيئة قيامها بعمليات التوظيف، لكنها حاججت بوجود سند قانوني يمنحها هذا الحق، وبرّرت التوظيفات بـ«حاجتها إلى القيام بالأعمال الاستثمارية الهائلة التي تعتزم القيام بها، وبالشغور الذي يضرب ملاكها»… هذا الأمر قيل في جلسات لجنة المال والموازنة وأمام المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم وفي ديوان المحاسبة أيضاً.
بحسب مصدر قضائي مطلع، ليست هناك عملية استهداف لهيئة «أوجيرو»، والادعاء عليها بهذا الملف جاء بعد الانتهاء من دراسة الملف «وهو واحد من بين أكثر من 60 ملفاً تتعلق بمخالفة للمادة 21 من القانون 46». وتمنع هذه المادة «جميع حالات التوظيف والتعاقد… إلا بقرار من مجلس الوزراء بناءً على تحقيق تجريه إدارة الأبحاث والتوجيه»، ثم تفرض على الحكومة «إنجاز مسح شامل» ضمن مهلة ستة أشهر، يبيّن الوظائف الملحوظة في الملاكات والشغور وتحديد الحاجات والفائض والكلفة الحالية والمستقبلية.
ويشير المصدر إلى أن «أوجيرو» ردّت على النيابة العامة المالية لدى ديوان المحاسبة بالإشارة إلى المادة الثانية من قانون إنشاء الهيئة (21/72) ونصّها: «تتمتع الهيئة بالشخصية المعنوية والاستقلالين المالي والإداري وتمارس مهماتها تحت وصاية وزير الاتصالات، ولا تخضع الهيئة في أعمالها إلا لرقابة ديوان المحاسبة المؤخرة ولأحكام هذا القانون والأنظمة التي تضعها وفقاً له»
هكذا ظهرت الإشكالية القانونية. النيابة العامة في الديوان اعتبرت أن أعمال الرقابة على التوظيف في أوجيرو تأتي بعد عمليات التوظيف، أي أنها من اختصاص الديوان ضمن رقابته المؤخرة، لكنها لم تستطع تقديم حجج وافية في الشق المتعلق بخضوع الهيئة للمادة 21، بل رأت أن هناك الكثير من القوانين التي صدرت لاحقاً والتي تلغي من استقلال الهيئة المنصوص عليه في القانون 21/72، وخصوصاً لجهة التوظيف.
هذه ليست نهاية النقاش بل بدايته. فهناك خبراء في القانون يشيرون إلى أن هذا النوع من الاستقلال المالي والإداري لا يمكن إلغاؤه إلا بنص صريح وواضح، لأن القوانين تتبع منهجية واضحة في تسلسلها ولا يمكن تقييد نص قانوني خاص كالذي أنشأ هيئة أوجيرو، إلا بنص مماثل في القوّة القانونية.
ومن ذرائع الهيئة أيضاً، أن القانون 46 المتعلق بإعطاء سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام والمؤسسات العامة والبلديات، لم يطبق على موظفي الهيئة. يومها رفض وزير المال علي حسن خليل منح مستخدمي «أوجيرو» زيادات مماثلة للتي حصل عليها موظفو القطاع العام، أو لمؤسسات عامة مثل الكهرباء والسكك الحديد وسواها. ولا ينطبق هذا الأمر على «أوجيرو» وحدها، بل يشمل مؤسسات أخرى لديها الاستقلال المالي والإداري والخاضعين لقوانين إنشائها مثل الضمان الاجتماعي ومصرف لبنان.
هذا النقاش القانوني لا حسم فيه، وكل طرف فيه يحمل الكثير من الاجتهادات التي تؤيد هذه النظرة أو المضادة لها، لكن المشكلة تكمن في حقيقة الوضع. فـ«أوجيرو» كانت، وما زالت، تعاني من شغور كبير في ملاكها الذي كان عدد المستخدمين فيه 4330 فرداً عام 2000، وتناقص إلى 2916 مستخدماً في نهاية عام 2016 ويتوقع أن يبلغ 1875 مستخدماً عام 2022، إلا أن هذا الأمر لم يظهر إلى العلن بشكل كاف بسبب المشاكل التي أثيرت حول رئيس الهيئة السابق عبد المنعم يوسف. هو الآخر كان له نصيب واسع من تعيينات المياومين، إلا أن امتناعه عن القيام باستثمارات في مجال قطاع الاتصالات وخدماته، قلّص الحاجة إلى أعداد كبيرة من المستخدمين خلافاً لما صارت عليه الحال في مطلع 2017. ففي ذلك الوقت، قدّمت أوجيرو خطّة لمشاريع عدّة؛ من أبرزها مشروع مدّ «الفايبر أوبتيك» فلجأت إلى تعيين 688 مياوماً بين 2017 و2018.
المشكلة التي برزت في ذلك الوقت لا تتعلق بقانونية التعيين، بل بآليات الضغط التي اعتمدتها القوى السياسية لنيل حصّة من هذه التعيينات. غالبية القوى السياسية المشاركة في الحكومة كان لها دور في هذا المجال، وغالبيتها نالت حصّة، وقد بلغت قدرة القوى السياسية في تعيين المياومين في «أوجيرو» ما نسبته 61% من عدد المياومين المعينين، وإن كان كريدية قد أشار في أكثر من مناسبة إلى أن الهيئة أخذت حاجتها، رغم كل الضغوط السياسية التي واجهتها.
هذه الضغوط هي العلّة الأساسية التي خلقت كل هذه البلبلة. فالقوى السياسية في لبنان اعتادت على التوظيفات الزبائنية في سياق السباق على الاستحواذ على الناخبين. «أوجيرو» ليست سوى مثال فاقع عن هذا السلوك، وهو مثال يذهب اليوم إلى القضاء حيث الصراع من شقين: قانوني وزبائني. تشكّله من هذين العنصرين يستند إلى الآتي: لماذا أخذ القضاء من المادة 21 في القانون 46 العبارة التي تشير إلى منع التوظيف، وأهمل العبارة التي تشير إلى ضرورة تحديد الملاكات والشغور والكلفة المالية خلال ستة أشهر؟ (وهو أمر لم يحصل)
الأنكى من ذلك كلّه، أن يصبح الموظف هو الضحيّة. فمنذ تسرّب قرار النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة إلى العلن، خرجت أصوات منادية بوقف الدفع للموظفين (مثل وزير القوات غسان حاصباني) لأنهم معينون خلافاً للقانون، ما يثير تساؤلاً أساسياً: هل هذا يعني أن كل حالات التوظيف في الإدارة العامة والمؤسسات العامة والبلديات والقوى الأمنية بعد آب 2017 (يقال إن عددهم 10 آلاف موظف) سينقطعون عن وظائفهم؟ أليست هذه السلطة التي عينتهم وضغطت من أجل تعيينهم، هي نفسها التي تطالب بإقالتهم؟ وهي نفسها سبب استمرار هذا النظام الاقتصادي القاتل لفرص العمل؟ وهي نفسها التي استنكرت التوظيفات؟ هذه هي تجليات الزبائنية السياسية.