خلال هذا الأسبوع الماضي، نشر بنك عودة تقريره الدوري، الذي استعرض أرقام الفصل الأخير من العام الماضي. وجاء التقرير بعنوان مثير يحمل سؤالًا جذّابًا: هل بدأ النهوض من القاع، مع احتمال انعطافة اقتصاديّة؟ غير أنّ الدخول في تفاصيل التقارير لا تكشف الكثير مما يمكن اعتباره بالفعل احتمالًا للانعطافة الاقتصاديّة، خصوصًا أنّ الخلاصة الأخيرة لا تختلف عن ما ألفناه في جميع التقارير الاقتصاديّة الأخرى التي تُعنى بالشأن اللبناني. فالاحتمالات محصورة بإمكانيّة تحقّق السيناريو الإيجابي في حال انتخاب رئيس وتشكيل حكومة فاعلة وتنفيذ شروط الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد، أو استكمال المراوحة في حال عدم حصول انفراجات سياسيّة. أمّا السيناريو الأخطر، فهو الذي يخشاه الجميع، وهو توسّع الحرب في ظل هذه المراوحة.
قبل الوصول إلى هذه الخلاصة، تقتصر مهمّة التقرير على استفاضة في استعراض مختلف المؤشّرات النقديّة والماليّة المتاحة، على مدى أكثر من 14 صفحة. هذه الاستفاضة قد تبدو في الشكل مضجرة ورتيبة، غير أنّ التعمّق في بعض المؤشّرات يكشف عن عدّة تحوّلات مثيرة للاهتمام والقلق على المستويين النقدي والمصرفي. وأبرز هذه التحوّلات، تلك التي ترتبط بحجم الودائع بالدولار النقدي، وطبيعة العمل المحاسبي المصرفي السائد اليوم، بالإضافة إلى تداعيات ظاهرة الدولرة على مستوى التضخّم. وعند قراءة هذه التحوّلات، ثمّة ما يستدعي السؤال: هل يمكن اعتبار تضخّم ودائع “الفريش دولار” علامة نهوض بالفعل؟ وكيف تُربط هذه الظاهرة بمسألة الدولرة والتضخّم وتفاقم الأزمة المصرفيّة؟
ودائع “الفريش دولار” والازدواجيّة المحاسبيّة
لعلّ أهم المؤشّرات التي يتطرّق إليها التقرير، هي تلك التي تشير إلى ارتفاع حجم الودائع بالدولار النقدي، المعروفة بمصطلح “الفريش دولار”، إلى حدود 3.5 مليار دولار اليوم، مقارنة بـ 2 مليار دولار فقط قبل نحو سنة. بهذا الشكل، حققت المصارف زيادة سنويّة كبيرة في حجم هذه الودائع، وبنسبة ناهزت 75%.
مع الإشارة إلى أنّ هذه الودائع تمثّل الدولارات النقديّة المودعة، أو التي تم تحويلها من الخارج، بعد تشرين الأوّل 2019، والتي تعفيها المصارف من القيود على التحويلات والسحب. وفي جميع المصارف اللبنانيّة، ولغاية تنظيم العمل المحاسبي، تم فصل هذه الودائع في بنود وقيود خاصّة، لتمييزها عن الودائع القديمة، أو ما يُعرف أيضًا بالدولار المحلّي أو “اللولار”.
أهميّة فصل الودائع “الفريش” في حسابات وقيود خاصّة، لا تقتصر على تحديدها وتمييزها، من أجل السماح لصاحبها باستعمالها بحريّة. فهذا التحديد والتمييز يمكن تحقيقه بسهولة من خلال أنظمة المحاسبة، من دون خلق بنود محاسبيّة جديدة، وهذا ما حصل بالفعل في بداية الأزمة قبل استحداث هذه البنود.
أهميّة الفصل تكمن في مكان آخر كليًا: استحداث ازدواجيّة محاسبيّة، أي استحداث ميزانيّات منفصلة، لكل نوع من أنوع الودائع. هذه الازدواجيّة هي ما يسمح اليوم بخلق نظام مالي منفصل، يسمح بتداول الدولارات “الفريش” داخل المصرف، أو بين المصارف المختلفة. وهي ما يسمح للمصارف بتقييم وضعيّتها الماليّة والمحاسبيّة، بالدولار “الفريش”، الذي تلتزم بسداده، بخلاف الدولارات المحليّة، التي لم تعد تُعتبر إلتزامًا يمكن أن يطالب بتسديده العميل في أي لحظة. باختصار، الازدواجيّة المحاسبيّة، هي الأداة الماليّة لتطبيع الفصل بين الودائع كمسألة مستدامة وطويلة الأمد، بدل أن تكون مجرّد تدبير مؤقّت.
للتأكيد على هذه النقطة، يكفي السؤال عن سبب حصول هذه الزيادة الكبيرة في حجم “الدولارات الفريش” خلال العام 2023 بالتحديد، أي في العام الرابع من أعوام الأزمة. وهنا، يمكن العودة إلى تعاميم مصرف لبنان التي نظّمت وشرّعت تداول شيكات الحسابات “الفريش”، والتي تتكامل بدورها مع هذه الازدواجيّة المحاسبيّة. واستحداث مقاصّة للدولارات “الفريش”، سمح تلقائيًا باستحداث آليّة للعمل بالبطاقات المصرفيّة “الفريش”، في نقاط البيع التجاريّة، ما يكرّس أيضًا هذه الازدواجيّة.
يولد بهذا الشكل نظامان ماليّان: نظام أبيض حرّ، تتساوى دولاراته في القيمة. ونظام أسود مقيّد، تتفاوت قيمة دولاراته بحسب تفاوت الآليّات التي تفرضها تعاميم مصرف لبنان، لكل نوع من أنواع الودائع (التعميم 158، التعميم 151، التعديل المرتقب على التعميم 151، وهكذا دواليك). إنّها علامة أزمة إذًا، وعلامة على انسداد الأفق.
ربما من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم العبارة البالغة الأهميّة التي وردت في التقرير: على الصعيد المصرفي، باتت المصارف تدير ثلاث ميزانيّات مختلفة: ميزانيّة بالليرة اللبنانيّة، وميزانيّة بالدولار المحلّي، وميزانيّة بالدولار النقدي.
الدولرة.. والتضخّم الدولاري
الحديث عن ودائع “الفريش” دولار، لا يبتعد كثيرًا عن فكرة الدولرة بشكل عام، وانتقال السوق إلى التعامل بالدولار النقدي على أساس يومي، كبديل عن التداولات بالليرة اللبنانيّة. الظاهرتان، تكمّلان بعضهما البعض: فالدولرة النقديّة تعزّز العمل بالدولار النقدي والحاجة إليه، والنظام المالي الموازي “الفريش” يخلق الأطر التي تسمح بتبادله مع العالم الخارجي. في الحالتين، مجددًا، نحن أمام علامة تأزّم وانسداد في الأفق، لا نهوض أو انعطافة اقتصاديّة كما يوحي عنوان التقرير.
غير أن الدخول في مسألة الدولرة، يقودنا إلى البحث في تداعياته، وأبرزها التضخّم. فنسبة التضخّم خلال العام الماضي قاربت حدود 204%، إذا ما قمنا باحتساب تغيّر الأسعار بالليرة اللبنانيّة. وجاء هذا التحوّل بالرغم من استقرار سعر صرف الليرة في السوق الموازية، منذ شهر آذار، أي أن هذا التضخّم لم يكن مدفوعًا بتدهور سعر صرف العملة المحليّة. وللتأكيد على هذه الحقيقة، يكفي العودة إلى نسبة التضخّم الدولاريّة، أي نسبة تضخّم أسعار السوق عند احتسابها بالدولار النقدي، والتي تجاوزت حتّى نهاية السنة مستوى 47%. بمعنى أوضح، ارتفعت أسعار السوق بالدولار النقدي، إلى جانب ارتفاع الأسعار بالليرة اللبنانيّة.
ولعلّ أبرز التغيّرات التي يمكن ربطها بهذا التطوّر، كانت دولرة الأسعار، وبموجب قرارات رسميّة صادرة عن وزارة الاقتصاد والتجارة. وبهذه القرارات، تمكّن التجّار والمستوردون من الانتقال من زيادة الأسعار بالليرة، إلى زيادة الأسعار بالدولار، من دون أي ضوابط فعليّة. كما تمكنوا من ضبط وتحديد هوامش الربح بالدولار النقدي، بدل من تقويم الأرباح بالليرة اللبنانيّة، وهو ما دخل بطبيعة الحال في السعر النهائي للمنتجات.
في النتيجة، كل ما تضمّنه التقرير كان تعبيرًا عن تأزّم الظروف المصرفيّة والنقديّة، ولم يشمل طبعًا أي إشارة إلى الانعطافة الاقتصاديّة التي تحدّث عنها عنوان التقرير، ولا إلى النهوض من القاع. ما يمكن الرهان عليه، تمامًا كما أشارت خلاصة التقرير، هو فقط مسار الإصلاحات المعروف، والذي يستوجب أولًا وجود الإرادة والقيادة السياسيّة، وهو ما لم يتوفّر حتّى هذه اللحظة. ولعلّ طريقة إقرار الموازنة يوم أمس الجمعة، مع طبيعة مندرجاتها، مجرّد دلالة على هذه الحقيقة.