رغم ما شهدته السنوات الأخيرة منذ كوفيد من أزمات متنوعة، إلا أنها حملت تغييرات كثيرة على صعيد الاقتصاد العالمي المتأثر أساسا بأسعار الفائدة والتضخم. والآن مع بلوغ الحرب التجارية ذروتها مع أقسى قرار أميركي في العصر الحديث، ستدخل الدول في المجهول في وقت كانت تأمل فيه الابتعاد من كثرة المشاكل التي تعاني منها.
تسود قناعة بين المراقبين أن هجمة الرسوم الأميركية الأحدث والأكبر في التاريخ الحديث ستفصل الاقتصاد العالمي إلى حقبتين وسيكون الثاني من أبريل 2025 علامة على دخول التجارية في مرحلة لا يمكن لأحد التنبؤ إلى أين ستحط رحالها.
وسيلحظ الكثيرون أن جغرافيا التجارة بين الدول سيعاد تشكيلها في السنوات الأربع المقبلة وأن الكثير من البلدان وقطاع الأعمال لديها قد تتجنب التصدير إلى السوق الأميركية لتفادي الخسائر وربما تبحث عن أسواق أخرى لتصريف منتجاتها بأخف ضرر ممكن.
وأثار قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض تعريفات جمركية شاملة على السلع والبضائع الواردة إلى الولايات المتحدة تهديدات بالرد الخميس وسط تقييم الشركات والحكومات لتداعيات حرب تجارية متصاعدة تهدد وضع تحالفات عالمية.
ويقدم ترامب هذه الضريبة باعتبارها عصا سحرية قادرة على إعطاء دفعة للصناعات الأميركية وإعادة التوازن إلى الميزان التجاري والقضاء على العجز في الميزانية.
وقبل أن يعرض قائمة بشركاء التجارة المعنيين قال “لقد تعرضت بلادنا للنهب والسلب والاغتصاب والتدمير من دول قريبة وبعيدة، حليفة وعدوة على حد سواء.”
وبينما هدّد شركاء الولايات المتحدة بالرد أعطوا الأولوية للحوار معها، غداة الهجوم التجاري الضخم الذي شنه الرئيس الأميركي وأدى إلى انخفاض البورصات العالمية وإثارة المخاوف من عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي.
وعقب خطوة وصفها ترامب بأنها “إعلان استقلال اقتصادي”، بدأ العالم المالي في التفاعل سلبا، فقد تراجعت بورصة طوكيو بنحو 3 في المئة عند الإغلاق وخسرت بورصة فرانكفورت 2.45 في المئة عند الافتتاح، وباريس 2.15 في المئة ولندن 1.44 في المئة.
ويتضمن الهجوم الحمائي الذي تشنه واشنطن، وهو غير مسبوق منذ ثلاثينات القرن العشرين، تعريفات جمركية إضافية بنسبة 10 في المئة كحد أدنى على كل الواردات ونسب أعلى على البلدان التي تعتبر معادية بشكل خاص في المسائل التجارية.
والزيادة هائلة بالنسبة إلى الصين التي ستخضع منتجاتها لضريبة استيراد جديدة بنسبة 34 في المئة، تضاف إلى الرسوم البالغة 20 في المئة التي فرضتها عليها واشنطن سابقا.
كما فرضت ضريبة بنسبة 20 في المئة على سلع الاتحاد الأوروبي، و24 في المئة على اليابان، و26 في المئة على الهند، و46 في المئة على فيتنام.
ومن المتوقع أن تلحق الرسوم المتبادلة الجديدة ضررا بالغاً بعدد من دول العالم الأشد فقراً، مما يهدد صناعاتها التصديرية كثيفة العمالة ويقوّض إحدى أبرز الميزات الاقتصادية التي تتمتع بها الولايات المتحدة مقارنة بمنافستها بالصين.
وفرضت على كمبوديا أعلى نسبة رسوم في آسيا بلغت 49 في المئة، وتعرّضت بنغلاديش، إحدى القوى الكبرى في إنتاج الملابس، لرسوم بنسبة 37 في المئة، بينما واجهت لاوس 48 في المئة، وتكبدت ليسوتو، في جنوب أفريقيا، رسوما بلغت 50 في المئة.
أما ميانمار، التي شهدت زلزالا مدمراً الأسبوع الماضي أودى بحياة أكثر من ثلاثة آلاف شخص، ففُرضت عليها رسوم بنسبة 45 في المئة.
وقالت ديبورا إلمز رئيسة سياسات التجارة في مؤسسة هنريتش لبلومبيرغ إنه “أمر كارثي. فرض رسوم تقارب 50 في المئة بين عشية وضحاها سيكون من المستحيل تحمله”.
وأوضحت أن العديد من تلك الدول كانت تتمتع بإعفاءات جمركية للوصول إلى السوق الأميركية، باعتبارها من “الدول الأقل نموا”، مشيرة إلى أن هذه الدول قد تتجه نحو أسواق أوروبا واليابان وأستراليا، في ظل ضعف الطلب من دول مثل الصين.
ومن المقرر أن تدخل الضريبة العامة البالغة 10 في المئة حيز النفاذ السبت، فيما ستدخل الرسوم الأعلى يوم الثلاثاء المقبل.
وتراوحت ردود الفعل بين الدعوات إلى الحوار والتهديد بالمواجهة، ولم تكشف حتى الآن أي جهة عن رد واضح. وأعلنت ألمانيا أنها تدعم الاتحاد الأوروبي في مساعيه للتوصل إلى “حل تفاوضي” مع واشنطن.
ولم تستبعد ألمانيا وكذلك فرنسا “استهداف الخدمات الرقمية” في الرد الأوروبي المحتمل الذي جرى بحثه مع اجتماع لممثلي القطاعات الأكثر تضررا الخميس، فيما انتقد قطاع صناعة السيارات الألمانية الرسوم الجديدة، مؤكدا أن “الجميع خاسرون” من جرائها.
وأبقت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين الباب مفتوحا أمام المفاوضات مع الإدارة الأميركية، معتبرة أنه من الممكن إيجاد حل تفاوضي ومؤكدة في الوقت نفسه أن الأوروبيين “مستعدون للرد.”
وفي حين دعت بعض الدول إلى ضبط النفس والحوار مع واشنطن لتجنب التصعيد، انتقدت أخرى السياسة الأميركية بشدة. وحضّت بكين واشنطن على “إلغاء” هذه الرسوم على الفور، داعية إلى “الحوار” في مواجهة خطر “تهديد التنمية الاقتصادية العالمية”، وفقا لوزارة التجارة.
وتعتقد الحكومة اليابانية أن حليفتها الولايات المتحدة ربما انتهكت قواعد منظمة التجارة العالمية واتفاقهما التجاري الثنائي. واستنكرت أستراليا الإجراءات بحقها ووصفتها بأنها “ليست من تصرفات صديق.”
ويرى موريس أوبستفيلد الخبير الاقتصادي في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي أن هذا “إعلان حرب على الاقتصاد العالمي”، خاصة أن تحديد مستويات الضرائب يثير تساؤلات حول المنهجية المستخدمة، وفق وكالة فرانس برس. وتهدف الرسوم الإضافية أيضا إلى الرد على ما يسمى بالحواجز “غير الجمركية” أمام السلع الأميركية، كالمعايير الصحية والبيئية.
وأعلن البيت الأبيض الأربعاء أن بعض السلع لن تتأثر، مثل سبائك الذهب والمنتجات الصيدلانية وأشباه الموصلات والنحاس وأخشاب البناء ومنتجات الطاقة والمعادن التي لا توجد على الأراضي الأميركية. لكن التعريفات لم تشمل روسيا وكوريا الشمالية على اعتبار أنهما لم تعودا شريكين تجاريين مهمين، وفق ما أفاد مسؤول أميركي.
وحذّر وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت الدول المعنية بالرسوم الجديدة قائلا “استرخوا، تحمّلوا الضربة، وانتظروا لمشاهدة كيف سيتطوّر الوضع، لأنّه إذا ردّيتم سيكون هناك تصعيد.” كما لا تظهر المكسيك ولا كندا على القائمة الجديدة، فباعتبارها من موقعي اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة، فإنهما تخضعان لنظام مختلف.
لكنّ البلدين، مثل بقية العالم، سيتأثران بالضريبة الإضافية البالغة 25 في المئة على السيارات المصنعة في الخارج والتي دخلت حيز التنفيذ الخميس.