الاقتصاد عالق في “عنق زجاجة” الاجراءات السطحية ولا مخرج إلا بالاصلاح

كما “المياه تكذّب الغطاس” فإن الواقع الاقتصادي المعاش يدحض كل التطمينات عن تجاوز لبنان أزمته المالية والاقتصادية والتبشير بأيام أفضل

ردّ فعل الاسواق على كلام حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، بأن “الأزمة الحادة باتت وراءَنا، وأن مصرف لبنان ولجنة الرقابة سيقومان بكل الإجراءَات المتاحة قانوناً، لإعادة تفعيل مساهمة القطاع في تمويل الاقتصاد”، أتى سلبياً. فبدلاً من ان ينخفض سعر صرف الدولار أو ان يحافظ في أضعف الايمان على استقراره، ارتفع نهار السبت الفائت أي بعد يوم على التصريح إلى 8700 ليرة، وعاد ليحلق صباح الاحد عند اعلى مستوياته على سعر صرف 9000 ليرة.

تفاعل سلبي

الايجابية الوحيدة التي سجلت بعد تصريح الحاكم، هي استعادة الاسواق مرونتها. حيث يظهر ان التطمينات الشفوية غير المبنية على حقائق فعلية ملموسة، تخلق ردّ فعل عكسياً على أرض الواقع. فبعد فقدان الثقة بكامل الطبقة السياسية لم يعد المواطنون يؤمنون بأن الخلاص سيأتي من القطاع المصرفي. فهذا القطاع الممتد من البنك المركزي ونزولاً إلى أصغر مصرف، لم يقدّم بعد ثورة 17 تشرين أي مثال حسّي عن صوابية وسلامة السياسات النقدية التي اتبعها، ولم يعطِ انطباعاً جدياً عن احترامه لالتزاماته تجاه مودعيه والاقتصاد. بل على العكس، كان كل يوم يكشّف عن وجهه “الريعي” الذي لا يهمه إلا حفظ مصالح طبقة معينة من النافذين على حساب مصالح الوطن والمواطنين. ولعل عملية التحويلات بمليارات الدولارات إلى الخارج، التي أعقبت الثورة، خير دليل على صحة هذا الافتراض.

ما يجري تداوله على انه كلام للحاكم في الاجتماع المالي الشهري، “يتطلب الحكم عليه قراءة مفصّلة لمحضر الجلسة”، برأي الخبير المالي والمصرفي جو صرّوع. فالأزمة برأيه “قد تصبح وراءنا في حال تم تشكيل حكومة فاعلة وعاد الانتظام إلى العمل المصرفي وجرت المباشرة بالاصلاحات المطلوبة، وبدأت التدفقات النقدية بالعملات الاجنبية الدخول إلى البلد. لكن في ظل غياب هذه المعطيات، فان الكلام عن انفراجات غير صحيح، ونحن ما زلنا في موقع صعب جداً. حيث لم يحدث أي تطور إيجابي كي نقول اننا تخطينا المرحلة الصعبة”.

التصاريح لم تعد تنفع بتحسين الاوضاع وذلك طِبقاً للمثل القائل “على الجميع أن يضع ماله حيث يكون فمه” everybody has to put his money where his mouth is، بمعنى ان الكلام الذي يخرج من الفم يجب ان يترافق مع أفعال، و”هذا ما لم نشهده منذ بداية العام”، بحسب صرّوع. “فحكومة “استعادة الثقة” برئاسة حسان دياب التي صدرت مراسيم تشكيلها في 21 كانون الثاني 2020، تركت حملاً على الوضع الاقتصادي اكبر من الحمل الذي حملته على ظهرها. فهي لم تنتج ولم تأخذ قراراً، ولم تحسّن المناخ السياسي وزادت تفاقم الاوضاع سوءاً. من ثم عمّقنا المشكلة اكثر بتضييع شهر كامل على حكومة لم تولد”. أما إذا باشرنا اليوم بالتحضير لحكومة جدية وجديدة تستطيع ان تنتج وتمرر الاصلاحات بالمعنى الحقيقي، فستكون معلقة بنتائج الانتخابات الاميركية، بحسب صروع، و”لن تبصر النور قريباً، وفي هذا الوقت يتعقّد الوضع الاقتصادي وتزيد الصعوبات بشكل هائل”.

منحى مستقبلي على شكل (L)

قياساً إلى الانكماش الاقتصادي الذي تجاوز الـ 24 في المئة هذا العام، وما سبّبه من إقفال للمؤسسات وتشريد آلاف العمال وانهيار في القدرة الشرائية، فان الحاكم يمكن ان يكون قد قصد بحديثه الاخير اننا لامسنا قعر الأزمة. ومن بعدها ستبدأ عملية الصعود والانتعاش انطلاقا من شكل (V). ولو سلمنا جدلاً بأن هذا ما قصده الحاكم فإن “الازمة لم تصل إلى الذروة بعد”، بحسب الخبير الاقتصادي ورئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني. “ولن نصطدم بالقعر إلا عندما تبدأ عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وعندها لن نستأنف الصعود من القعر فوراً على شكل (V)، ولا بعد فترة على (U)، انما سيأخذ الاقتصاد اللبناني المنحى (L). ما يعني اننا سنلامس القعر ونبقى فيه لفترة طويلة. وهذا الواقع وإن لم يكن محتوماً، فهو لن يتغير، برأي مارديني، “إلا بعد فترة من الوقت ومع بدء تطبيق الاصلاحات”.

 

إتّكال “سطحي” على التعميم 154

يتفق الجميع على ان المصرف المركزي يعوّل على التعميم رقم 154 بشكل أساسي من أجل تأمين دخول تدفقات نقدية بالدولار الطازج إلى النظام المصرفي. فالتعميم الذي يفرض على كل من حوّل مبلغاً يفوق الـ 500 الف دولار منذ تموز 2017 حتى صدور التعميم، ان يعيد ما نسبته 15 في المئة نقداً إذا كان فرداً عادياً، و30 في المئة إذا كان من رؤساء البنوك أو كبار المساهمين أو من الأشخاص المعرضين سياسياً استعاد خلال أقل من شهرين، بحسب مصادر القطاع المصرفي، نحو 450 مليون دولار. ومن وجهة نظر المركزي فان رصيد الاموال المستعادة سيصل إلى حوال 4 مليارات دولار لغاية نهاية شباط 2021، وهي المهلة المعطاة للمصارف من اجل تنفيذ التعميم. وبغض النظر عن الارقام التي من الممكن تأمينها من هذا التعميم الاشكالي وغير العادل فان “هذه الطريقة قد تطيل حياة القطاع المصرفي من دون ان تعالج المشاكل البنيوية التي يعاني منها”، يقول المستثمر في الاسواق الناشئة صائب الزين. “فالازمة المصرفية هي أزمة أصول غير منتجة. وحلها لا يكون سطحياً بالمسكنات الموضعية، بل بفصل البنوك وتصنيفها بين بنوك جيدة وبنوك رديئة؛ وهو الاقتراح البديهي لصندوق النقد الدولي، والذي كان قد تقدم فيه أكثر من مرة الوزير السابق عادل أفيوني. وإلا فان من شأن هذه السيولة التي يتحدثون عنها إطالة حياة المصارف من دون أن تمتلك القدرة على العمل والانتاج، وبالتالي تتحول إلى ما يشبه “زومبي بنك” لمدة طويلة. وبحسب الزين فان “المرحلة المقبلة لا تحتاج إلى قطاع مصرفي يعادل حجم رأسماله (25 مليار دولار) حجم الناتج المحلي الاجمالي. بل يكفي الاقتصاد وجود قطاع برأسمال 5 مليارات دولار يقوم على أسس سليمة”. وهذا لن يتحقق من وجهة نظره إلا بالاصلاحات وبالتدفقات النقدية بالعملات الاجنبية التي يؤمنها صندوق النقد الدولي والذي بدوره يشترط الاصلاح.

“لا يمكن ان نخترع (هندسات) قانونية على شاكلة التعميم 154 ونعتبر ان الامور تسير على ما يرام”، يقول الزين. فالاصلاح ثم الاصلاح هو المطلوب للخروج من المأزق وإلا فان الامور ستذهب إلى مزيد من التعقيد والانهيار.

مصدرخالد أبو شقرا - نداء الوطن
المادة السابقة936 مليون دولار حجم التبادل التجاري بين الإمارات والبحرين في النصف الأول من العام
المقالة القادمةرابطة المودعين: الدولار الطالبي يحمي المصارف