مرة جديدة تتّجه الأنظار نحو الدوحة، لإنضاج تسوية رئاسية. لكن لبنان مأزومٌ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والنقدي، عكس ما كان عليه في العام 2008 حين كان المأزق في السياسة وحدها.
متغيِّرات كثيرة طرأت في الداخل والخارج، ما عاد تجاهلها مقبولاً، ولا التعويل على “انجذاب” الخليجيين لـ”فرادة” لبنان الثقافية والسياحية، ممكناً. ومِن الوَهم الرهان على المصالح الاقتصادية في لبنان، وتحديداً الفرنسية والقطرية، لاستسهال الحصول على الدعم المادي، إذ وُضِعَت شروط هذا الدعم في العام 2018 (مؤتمر سيدر)، ولا رجوع عنها.
الاقتصاد ليس بالحسبان
يبحث المجتمعون في الدوحة، اليوم الإثنين، الملف الرئاسي اللبناني. المحسوم حتى الآن، هو رغبة المجتمعين (قطر، السعودية، الولايات المتحدة الأميركية، فرنسا، مصر) بالتوصّل إلى انتخاب رئيس، كما في عدم وجود فيتو مسبق على أحد المرشّحين، لكن ضمناً، ليس سليمان فرنجية صاحب الإسم المقبول، وإن حظي بدعم فرنسي معلَن. أما الجانب السلبي، فهو عدم استعجال السعودية وأميركا إنهاء الملف.
عقدة الإسم الذي سيشغل الكرسي الأوّل في الجمهورية اللبنانية، لن يرافقها إلى الاجتماع الخماسي هاجس العقدة الاقتصادية والنقدية. فالاقتصاد ليس بالحسبان حالياً، ذلك أن التدهور جاء نتيجة سوء إدارة داخلي، وليس كانعكاس لخلل خارجي يعني الجميع، على غرار تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008، والتي ساهمت برفع معدّل التضخُّم في لبنان بنسبة 10 بالمئة.
ومع أن العنوان الرئيسي للاجتماع هو رئاسة الجمهورية، إلاّ أن ملف الرئاسة يرتبط بالملف الاقتصادي بشكل مباشر، فتعيين حاكم جديد لمصرف لبنان ينتظر رئاسة الجمهورية، ومن هذا الملف يُفتَرَض الانطلاق نحو اختيار آلية نقدية جديدة تُخفِّض سعر الدولار وتضبط تحرُّكه وتُظهِر بشفافية الجهات المستفيدة منه عبر منصة صيرفة في حال الاستمرار باعتمادها. كما أن انتخاب الرئيس يستتبع تشكيل حكومة تضع برنامجاً اقتصادياً اجتماعياً مناسباً لمواجهة الأزمة، وبالتوازي، انطلاق عمل الإدارات الرسمية. وهذه إجراءات معلَّقة في الوقت الحالي ولا مؤشِّرات على حلحلة الجمود فيها ما لم يلتمس اللبنانيون، ومن بينهم موظّفو الدولة، تغييراً يحسِّن رواتبهم ويمنع تآكل قدرتها الشرائية.
لا استعجال
رغم تكامل ملف الرئاسة مع الاقتصاد، لا تستعجل السعودية وأميركا انتخاب رئيس للبلاد، ويعكس ذلك عدم استعجال في تقديم مساعدات مالية لتعويم الاقتصاد والليرة. وهو موقف غير مستجد، بل يعود إلى طلب إجراء إصلاحات اقتصادية ونقدية منذ مؤتمر سيدر في العام 2018. وتكرَّرَ الطلب بعد تسارع الانهيار في العام 2019، من دون أي صدى إيجابي من المنظومة الحاكمة التي ما زالت تتوهَّم أن السعودية قد تضخّ دولاراتها في النظام المصرفي أو تضع وديعة في المصرف المركزي. أما الأميركيون فيضمّون صوتهم لصوت صندوق النقد الدولي الذي يحدد جملة إصلاحات يفترض بلبنان إنجازها للحصول على مساعدته. ولا يشفع للبنان استعجال الفرنسيين لتهدئة الأوضاع، لأن الملف الاقتصادي لا يُحسَم بقرار أو اتفاق سياسي بل بآليات تقنية واضحة.
الواقع غير مشجِّع
لا يلاقي الساسة اللبنانيون محاولة الدول الخمس، برؤية اقتصادية تحاكي السعي لحلّ عقدة الملف الرئاسي. وأبعد من ذلك، لا يطرح فرنجية مرشّح الفرنسيين، مبادرة اقتصادية، فيما جهاد أزعور الذي رشّحته بعض القوى، لا يملك حظوظاً بالوصول إلى بعبدا، رغم خلفيته الاقتصادية والنقدية. وواقع الحال يشي بأن مَن تريد المنظومة إيصاله إلى القصر، لن يعارض السياسات الاقتصادية والنقدية الحالية، ولن يكون موقفه جازماً حيال الإصلاحات المطلوبة دولياً.
في المقابل “كان على السياسيين عدم انتظار التسويات السياسية لانتخاب رئيس، للبدء في وضع تصوُّر لحل الأزمة الاقتصادية”، وفق ما تقوله مصادر مقرَّبة من إدارة مصرف لبنان، لأن اللامبالاة اللبنانية تجاه الوضع الاقتصادي، سيدعم رأي الدول الخارجية بأن لبنان لن يطبّق الإصلاحات حتى وإن اتُّفِقَ على رئيس للجمهورية. ولذلك “كان على اللبنانيين استباق اجتماع الدوحة بورقة اقتصادية واضحة”.
وعليه، لن ينجرَّ أحدٌ خلف استثماراته في لبنان ليركن إليها وحدها كسبب نهائي لحسم الملف الرئاسي، وبالتوازي تقديم المساعدات الاقتصادية أو المالية. وباستثناء الفرنسيين الذين يوسِّعون استثماراتهم في لبنان عبر شركة توتال وCMA CGM، لن يغامر أحد برمي أموال في لبنان بلا ضمانات تحصِّن السوق وتشجِّع تطوير الاستثمارات، وخصوصاً دول الخليج. مع الإشارة إلى أن الدول الخمس لا تُسقِط من بالها أن لبنان لم يدفع بعد مستحقات حَمَلَة سندات اليوروبوند، وهذا مؤشِّر سلبي بالنسبة للبيئة الاستثمارية.
الدول الخمس لا تريد حرق المراحل سياسياً، لتساعد في تلميع الصورة الاقتصادية للبنان. وأبعد من ذلك، غيَّرَت تلك الدول طريقتها في مساعدة لبنان، إذا ما استقرَّ رأيها على المساعدة. فدول الخليج، لم تعد ترغب في ضخ الدولارات في السوق والمصارف اللبنانية والمصرف المركزي كيفما اتَّفَق. إذ لديها ما هو أهم، فلكل دولة رؤيتها السياسية والاقتصادية العشرية التي تريد من خلالها منافسة الدول الأوروبية، خصوصاً وأن الظروف السياسية والاقتصادية الصعبة في أوروبا راهناً، مؤاتية لدول الخليج للقفز إلى مراتب متقدّمة، وهذا ما تسير وفقه كلٌّ من السعودية وقطر. وهذا التوجُّه يخفِّض احتمالات أن تساعد تلك الدول لبنان بالطرق التقليدية. لذلك الأزمة الاقتصادية قد تزداد عمقاً حتى في ظل البحث عن رئيس في الخارج.