البديل عن صندوق النقد… هو الدولة الفاشلة

لا بديل عن صندوق النقد الدولي لحلّ الأزمة في لبنان، عبارة يتم تردادها منذ انطلاق مسار الأزمة المالية والإقتصاد وباعتراف الجميع. وانطلاقاً من تلك الحقيقة المتوافق عليها، تقدّم لبنان بطلب للحصول على مساعدة مالية من الصندوق لمواجهة أزمة مالية واقتصادية خانقة، وتمّ توقيع إتفاق على صعيد الأفرقاء سمّي بـstaff level agreement في نيسان 2022، ولم يتحوّل الى نهائي ليحظى بموافقة مجلس إدارة الصندوق، بسبب تقاعس الحكومة عن القيام بالإصلاحات الموعودة وإصدار القوانين المطلوبة مثل قانون الـ»كابيتال كونترول»، إعادة هيكلة القطاع المصرفي، إنجاز تعديل قانون السرية المصرفية كما يجب، توزيع الخسائر وانجاز موازنة 2023… باعتبار أو بحجّة أن مجلس النواب هيئة ناخبة فقط وبانتظار انتخاب رئيس للجمهورية.

والأيام تمرّ وبدأت تبتعد يوماً بعد يوم فرص التوقيع على إتفاق نهائي مع صندوق النقد، ما يطرح تساؤلات حول البديل عن هذا الصندوق والسيناريوات الممكنة في حال لم يتمّ الخروج باتفاق نهائي؟

مطلوب تغيير شامل

يعتبر نائب رئيس الحكومة السابق النائب غسان حاصباني أنه «لا بديل عن برنامج إصلاحي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لأنه سيكون شاملاً مع مهل زمنية للتنفيذ». إلا أن ذلك لا يمنع الحكومة كما يرى «من تنفيذ الاصلاحات من دون صندوق النقد. لكن ذلك يتطلب تغييراً شاملاً في طريقة عمل الدولة والقوى السياسية الحاكمة، وإصلاحات مركّزة يصعب تنفيذها من دون حثّ ومراقبة دوليين. كما أن عدم وجود إتفاق مع صندوق النقد قد لا يعطي الثقة المطلوبة للدول الداعمة والمستثمرين للاستثمار في لبنان او مساعدته».

تاريخ المسؤولين غير مشجّع

وإذ اعتبر أن «تاريخ لبنان لا يشجع من ناحية الاتّكال على المسؤولين اللبنانيين للقيام بالاصلاحات المطلوبة، شدّد على أن «كل البرامج السابقة لدعم لبنان منذ العام 2001 عبر مؤتمرات باريس التي لم تتوقف وصولاً الى مؤتمر سيدر في 2018، كانت تؤدي الى مطالبات دولية بالإصلاح من دون تنفيذ، وفي بعض الأحيان كانت تصدر التشريعات الاصلاحية شكلاً لكنها لا تطبق. هذا انطبق على سبيل المثال على قوانين تنظيم قطاعات الكهرباء والاتصالات والطيران المدني التي صدرت في العام 2002 ولم تنفذ حتى الآن».

السيناريوات المطروحة

أما في حال لم تتوصّل الحكومة الى اتفاق مع صندوق النقد، فالحلّ الذي سيصبح أمراً واقعاً، برأي حاصباني، هو التالي:

– تبخّر أموال المودعين، حلّ الدولة من التزاماتها تجاههم وتجاه الديون كما عدم اعادة رسملة المصرف المركزي.

– سيحدث الأسوأ للقطاع المصرفي وهو إعادة هيكلة استنسابية من قبل مصرف لبنان بشروط غير واضحة، فتقفل بنوك وتفتح بنوك جديدة وتحصل مقاصة لشيكات الدولار الفريش وحسابات جديدة للدولار وتتبخر الحسابات القديمة.

– يحدث كل ذلك من دون ان تقوم الدولة بإصلاح القطاعات كما يجب وعدم إدارتها بطريقة مستقلة عن السياسة والمحاصصة، فتتدهور الخدمات أكثر، وإن وجدت فستكون كلفتها عالية ومرتبطة بسعر الدولار المرتفع.

– حكماً ستلجأ الحكومة الى الضرائب والرسوم لتعزيز مداخيلها مع الاستمرار بعدم التحصيل العادل والكامل كما كان يحدث في السابق.

– يتوسع الاقتصاد النقدي لفترة ثم تعود الأموال لتدخل المصارف تدريجياً بحسابات الفريش مما يساعد في تبييض الحجم الأكبر منها في غياب الرقابة.

وفي السياق يقول حاصباني: «ستعود الأمور الى ما كانت عليه قبل الانهيار بعد تدمير الجزء الأكبر من ثروة اللبنانيين وإخراج لبنان من الأسواق العالمية وضمه الى مجموعة الدولة «الفاشلة»، التي تعيش على التحاويل الخارجية من المغتربين والسياحة الاغترابية والأسواق السوداء للتجارة المشبوهة.

تبعات تدخّل السياسة بالإقتصاد

بدوره قال البروفسور مارون خاطر الكاتب والباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة: «بدأت أزمة لبنان الاقتصادية بعد انتهاء الحرب وامتدَّت عبر العقود إلى يومنا هذا، ويعيش بلدنا اليوم تَبِعات تَدَخُّل السياسة في الاقتصاد والمال والقطاع العام والمصارف والمصرف المركزي. تدخَّلَت شياطين السياسة في جميع مفاصل حياة اللبنانيين حتى تفككت الدولة واهترأت مؤسساتها وباتت المحاصصة هي القاعدة والزبائنية السياسية هي البديل عن الدولة وأصبح الفساد لصيقاً بالسياسة والسياسيين. كَسَرَت ثورة 17 تشرين حلقة التدفقات فانكشفت لعبة «البونزي» فبدأ الانهيار وكأنه وليد ساعته وهذه ليست الحقيقة. جاء قرار حكومة حسان دياب بالتخلف عن تسديد ما إستَحَقَّ من ديون سيادية دون مفاوضة الدائنين ليُغرِقَ لبنان في عزلةٍ ماليةٍ قاتلة. تقاطعت العزلة مع تخبط اقتصادي ومالي ونقدي عكس عمق التخبط السياسي وغياب أفق الحلول. فعَمَّقَ تفجير بيروت الجُرح والألم إلا أنه لم يَكف ليَجعل ضمير البعض يصحو بحثاً عن حلّ، فأضحى لبنان أسير أزمته وقرارات حكومته».

الطريق إلى الصندوق ليس نزهة

وأضاف: «جعلت الأحداث والقرارات المتسارعة من صندوق النقد الدولي ممراً إلزامياً للنهوض بلبنان وباقتصاده. إعترض البعض في البداية على إلزامية اللجوء إلى الصندوق ثم ما لبس أن غَضَّ الطَّرف. رغم عِلم كل من هم في مركز القرار وأسيادهم بأن الطريق إلى التمويل عبر الـصندوق ليس بنزهة، استمر التماهي وبقيت المُراوغة وعدم الجِديَّة. وافق الصندوق على اتفاق شفهي على مستوى الخبراء كبادرة حسن نية. لم يتلقّف لبنان الفرصة فرسب في امتحان إقرار الإصلاحات شكلاً ومضموناً. من الـكابيتال كونترول اللقيط إلى الموازنة الثلاثية الأسعار وأرقام الخسائر، مروراً بقانون السريّة المصرفية، وبإعادة هيكلة المصارف وبالخطة الاقتصادية، أثبت لبنان عدم أهلية من يحكمه تشريعاً وتنفيذاً على انقاذه من أزمته».

ولفت خاطر الى ان «تقرير الـصندوق الأخير أوقف فصول الهذيان وتَوَهُّم الانجازات وَوَصَّفَ حال لبنان واللبنانيين بالكارثي وهو كذلك طبعاً! لكن ما يطلبه صندوق النقد من إصلاحات مالية ونقدية لا يتعدى كونه خطوات بديهية لرسم المعالم الاقتصادية لبلد قابل للحياة وهو ما يجب أن يقره لبنان حقَّ إقرار بِغَضّ النظر عن الصندوق».

في رحلته الشاقة مع الصندوق، يؤكد خاطر ان لبنان يعاني من عدم امتلاك من يفاوضون باسمه لِمَلِكَة التفاوض من جهة ومن وقوف السياسة عائقاً أمام إقرار ما يمكن اقراره من إصلاحات من جهة ثانية. إن وجدت النية لإقرار الإصلاحات بما يتناسب مع خصوصية الوضع اللبناني تنتفي الحاجة الى الصندوق. أما في وضعنا الحالي فالسؤال لا يجب أن يكون عن بديل لصندوق النقد بل عن بديل لكل من يحكمون البلد اليوم، كما يقول.

المراوحة وشراء الوقت

واعتبر أنه «في زمن الفراغ والفارغين يُستبدل الاتفاق مع الصندوق بالمراوحة وبشراء الوقت وبتأجيل الحَسم وكأن قَدَرَ لبنان واللبنانيين هو العيش خارج إطار الزمن. يبقى أن أي مرور الى التعافي لا بد أن يَمُر عبر صندوق النقد من خلال إقرار إصلاحات جِديَّة. يتطلب ذلك استقراراً سياسياً يرتكز إلى انتظام عمل المؤسسات ويبدأ بانتخاب رئيس للبلاد وبتشكيل حكومة تنتج خطة مالية ونقدية شاملة. نخاف أن يكون التصدي للحلول مستداماً، فلا بد لتضارب المصالح لدى البعض أن يمنع تحول المزرعة إلى بلد…»

 

صورة لبنان الخارجيّة

أما الخبير المصرفي محمد فحيلي فرأى أن أهمية التوصّل الى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي تكمن في تعزيز صورة لبنان بالأسواق المالية العالمية من خلال تحسين التصنيف الإئتماني للبلاد، وتحسين علاقة المصارف التجارية اللبنانية مع المصارف المراسلة، فتصبح خدمة القطاع مع الخارج أقلّ كلفة لخدمة المواطنين اللبنانيين من خلال المصارف المراسلة.

ويتوقّع الخبراء، بحسب فحيلي، أن تكون «تداعيات البرنامج وتأثيراته الإيجابية بقيمة 100 مليار دولار، من هنا فإن حجم المبلغ الذي سنستدينه من صندوق النقد يجب أن يكون من آخر اهتمامات الحكومة والهمّ الأخير للطبقة السياسية. وفي ظلّ غياب تام لأي تفاوض مثمر مع الدائنين، فقدت الدولة موقعها بالأسواق المالية العالمية ولم تعد قادرة على اللجوء الى الأسواق للاقتراض عند الحاجة».

المصداقيّة الدوليّة

وفي السياق، يعتبر فحيلي أنه «إذا أرادت الحكومة أن تعتمد مسار الإصلاح من دون التوصّل الى أي برنامج مع صندوق النقد الدولي، ستواجه مشكلة مصداقية أمام المجتمع الدولي، إذ لن تحظى بالثقة ولن تبرئ ذمّة الحكومة اللبنانية بما يجعلها تسير على المسار الصحيح، ولن تتمكن من الإقتراض. وهنا يترتب على الحكومة وضع حدّ للفساد والهدر، ترشيد الإنفاق وتفعيل الإيرادات، وعدم اللجوء الى المصرف المركزي لتمويل عجزها».

أما بالنسبة الى الخيار البديل، فيرى فحيلي أنه «في حال عدم التوافق مع صندوق النقد الدولي لا بدّ من إطلاق عجلة الإصلاحات البنيوية بالمالية العامة وإعادة هيكلة المصرف المركزي، لجهة فصل لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة عن المصرف المركزي ليقوموا بمهامهم الرقابية، إضافة الى إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة النظر بالقوانين المالية خصوصاً قانون النقد والتسليف، وإعادة النظر بطبيعة العمل المصرفي في لبنان وتفعيل الأسواق المالية. هذه الأمور يمكن للدولة القيام بها من دون أن يكون لديها برنامج مع صندوق النقد الدولي. لكن المشكلة هي في كسب الحكومة الثقة، وبالتالي لتحسين صورتها أمام المجتمع الدولي، فالمسار سيكون طويلاً. فالأزمة التي وقع فيها لبنان ليس لديها رفاهية الإنتظار ليتعافى لبنان وتعود فيه الحياة الى طبيعتها».

معضلة 100 مليار

وشدّد على أنه «على قناعة أنّ مكوّنات الطبقة السياسية تلجأ الى السيناريوات البديلة عن برنامج مع صندوق النقد الدولي، لأن هناك ما يقارب 100 مليار دولار ودائع لا تزال متبقية في القطاع المصرفي اللبناني، جزء من الودائع بالعملة الأجنبية أطلق عليها حاكم مصرف لبنان «الدولار المحلي»، هذه الدولارات مثقّلة بالمخاطر الإئتمانية وتمّ توظيفها بموجودات مالية يصعب جداً دفعها او إعادتها للقطاع المصرفي اللبناني».

ولفت الى أنه «من مصلحة المصرفيين وكل من لفّ لفّهم من سياسيين أن يطيلوا أمد الأزمة بوجود تعاميم مصرف لبنان التي توفّر آلية لتأمين السحوبات من الودائع. سيحصل تفريغ للحسابات المصرفية من أرصدتها وإقفال حسابات. في تلك الحالة يتقلّص عدد زبائن المصارف مع مرور الزمن وعدد الودائع يتقلص، ما يعني أن حجم المصيبة والمشكل الذي هو على عاتق المصرفيين ومصرف لبنان ومكوّنات الطبقة السياسية يتقلّص وتصبح إمكانية الحلّ أسهل. فمن لديه رفاهية الإنتظار سيحصل على أمواله كاملة ولكن من لا يستطيع الإنتظار يدفع ثمن إطالة أمد الأزمة ويعاني من الهيركات مع كل دولار يسحبه من الحسابات «.

 

مصدرنداء الوطن - باتريسيا جلاد
المادة السابقةسليم شاهين: منصة جديدة أكثر شفافية وعمقاً وحجماً
المقالة القادمةنوّاب الحاكم… عند الإمتحان يُكرم المرء أو يُهان!