من المفترض أن تنعقد يوم الأربعاء المقبل، ثاني جلسات اللجنة الفرعيّة المنبثقة عن اللجان المشتركة، المخصّصة لدراسة مشروع “الصندوق الائتماني”، أو “صندوق استرداد الودائع“، أو أيًا تكن التسمية التي ستُطلق على هذا المشروع. تتعدّد التسميات والمضمون واحد: المضي بالمشروع الذي طرحته جمعيّة المصارف منذ العام 2020، والقاضي بإطفاء الخسائر المصرفيّة عبر ربط الودائع بالإيرادات العامّة. أو بصورة أوضح: تحويل إلتزامات المصارف المترتّبة لمصلحة المودعين إلى ديون عامّة على الدولة أو أصولها أو إيراداتها. هذا الحلم المصرفي، بات أقرب إلى الحقيقة أكثر من أي وقت مضى، بعدما مضت اللجنة الفرعيّة في المناقشات الهادفة إلى دمج اقتراحي القوّات والتيّار الوطني الحر بهذا الخصوص.
منذ أكثر من أربع سنوات، طرحت جمعيّة المصارف هذه الفكرة، في وجه الخطط المتجهة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. لم يكن المشروع منذ البداية سوى البديل الذي يجنّب المصارف والسياسيين استحقاق فتح الدفاتر وتفنيد مصادر الخسائر، للتعامل مع الفجوة على أساس مبدأي المحاسبة والمساءلة، أو لتحميل الكلفة للمستفيدين من خسائر المرحلة السابقة. منذ ذلك الوقت، نجحت المصارف ومن يدور في فلكها من سياسيين في ضرب أي مشروع عقلاني لإعادة الهيكلة، ليبقى مشروع المصارف وحده في الساحة.
ربط الودائع بالدين العام، لن يرد الودائع، وسيُغرق الدولة والاقتصاد تحت وطأة ديون لن تُسدد، وسيحول دون الاتفاق مع صندوق النقد وحملة سندات اليوروبوند. لكنّه الخيار الوحيد الذي يتناسب مع مصالح النخبتين السياسيّة والمصرفيّة.
النقاشات البرلمانيّة: مشروع عبثي ونقاش فارغ
من المهم الإشارة أولًا إلى أنّ اللجنة الفرعيّة باشرت يوم الأربعاء الماضي أولى جلساتها، التي أفضت إلى الاتفاق على متابعة النقاشات يوم الأربعاء المقبل. وسيكون على اللجنة الفرعيّة أن تتابع البحث في الموضوع على أساس جدول مقارنة، يفنّد الفروقات ما بين مقترحي القوّات والتيّار. مع العلم أنّ المقترحين يتّفقان على ربط الصندوق باستثمار المرافق العامّة أو خصخصتها، وهو ما يجرّد الدولة من جميع الأصول المدرّة للإيرادات، لمصلحة هذا المشروع. وكان من الواضح أنّ النقاشات التي حصلت يوم الأربعاء الماضي شهدت تحفّظًا من جانب بعض النوّاب، على فكرة ربط الأصول بالصندوق، وفق الطروحات الموجودة على الطاولة.
النقاشات التي حصلت حتّى الآن تحت قبّة البرلمان تُظهر مدى عبثيّة المشروع بأسره. الرقم المطروح، لحجم الودائع التي ستتحوّل إلى ديون عامّة، هو 40 مليار دولار أميركي، أي ما يقارب 44% من إجمالي الودائع المصرفيّة. هذا الرقم الهائل، يناهز ضعفي حجم الاقتصاد اللبناني بأسره، بكل مداخيل المقيمين فيه، و12 ضعف حجم الإيرادات العامّة المقدّرة في الموازنة، وأربعة أضعاف قيمة أصول الدولة في الظروف الراهنة.
طُرحت أسئلة عديدة: لماذا 40 مليار دولار، وليس 30 أو 60 مليار دولار؟ على أساس أي تدقيق أو تقدير لحجم الخسائر؟ وعلى أساس أي توزيع للمسؤوليّات؟ هل يستند هذا الرقم إلى أي تقديرات ترتبط بمصدر الخسائر والمتسببين فيها، قبل تحميلها للمال العام؟ وهل هناك أي تدقيق في موجودات المصارف لمعرفة حجم الفجوة الفعليّة؟ وهل استند الرقم إلى أي دراسة جدوى، تبيّن حجم الإيرادات المستقبليّة وقدرة الأموال العامّة على تحمّل ديون من هذا النوع؟ هل سيُسدد هذا الدين أصلًا؟ هل نبيع المودع سمكاً في البحر؟ على من نتذاكى هنا، ولمصلحة من؟ لا جواب.
أسئلة خطيرة لا جواب عليها
طُرحت أسئلة أخطر: هل سيقبل صندوق النقد بهذه الفكرة؟ هل سندخل برنامج التمويل، بعد تطبيق مشروع من هذا النوع؟ هل سيُغامر الصندوق بمصداقيّته، بالمصادقة على مغامرة كهذه؟ وإذا وضعنا برنامج الصندوق جانبًا، فعلام نراهن للعودة إلى أسواق المال، والتفاوض لإعادة هيكلة الديون؟ هل نريد أن نعيد البلاد إلى النظام المالي العالمي، أم سنبقى بؤرة بائسة ماليًا واقتصاديًا كحال الاقتصادات المعزولة؟ لا يوجد جواب.
ثم سُئل عن رأي حملة سندات اليوروبوند، وعن مصير احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة التي يملكها مصرف لبنان. هل سيقبل حملة السندات إعادة هيكلة ديونهم، بعد تحميل الدولة هذه الديون؟ ألن يُستخدم المشروع للطعن باستقلاليّة مصرف لبنان الإداريّة والماليّة، بعد تحميل الخسائر المصرفيّة إلى الدولة المدينة لحملة السندات؟ ألم يتحايل المصرف المركزي بإضافة ديون سياديّة جديدة، لم تكن موجودة في مرحلة إصدار السندات؟ ألا يتعارض المشروع بأسره مع عقود إصدار سندات اليوروبوند التي تمنع رهن إيرادات عامّة لسداد ديون أخرى؟ ولذلك: ألن يفتح المشروع بابًا للحجز على احتياطات الذهب والعملات الأجنبيّة التي يملكها مصرف لبنان، والموجودة في الخارج، عبر دعاوى أمام المحاكم الأجنبيّة؟ هل نملك رأياً قانونياً هنا؟ لم يملك أحد أي إجابة.
ثم تساءل البعض عن مدى انسجام المشروع مع خطّة الحكومة، ومع تطلّعاتها لإدارة الأصول العامّة، ومع مشروعها المنتظر –والمغيّب- لإعادة هيكلة القطاع المصرفي. أين المشروع أصلًا؟ كيف نناقش مسؤوليّة الدولة قبل أن نفهم مصير المصارف ومسؤوليّاتها؟ ما هذا النقاش الذي يُشبه الضرب بالرمل، من دون أرقام ومن دون خطة؟ وهل تملك الحكومة أساسًا أجوبة صريحة عن مخاطر المشروع على مفاوضات صندوق النقد وإعادة هيكلة الدين العام؟ وكيف ينسجم المشروع مع ما يُعد في مصرف لبنان من خطط؟ مجددًا لا إجابات.
ثمّة عبثيّة وضياع لا حدود لهما، في كل ما يتصل بمناقشة هذا المشروع. والواضح جدًا، هو أنّ من يطرح المشروع يملك هدفين: فتح الباب أمام صفقة شاملة لتحاصص المرافق العامّة، إما بخصخصتها أو بتشركتها مع القطاع الخاص، وشطب نسبة من الودائع وتحويلها إلى إلتزامات على الدولة اللبنانيّة. أي تحرير الميزانيّات المصرفيّة من كتلة من الإلتزامات، بهدف تصفية الخسارة.
الكلفة هنا سيتحمّلها طرفان: المودعون، والدولة. والمشروع بأسره، سيحول دون المضي في أي مسار للتعافي المالي، طالما أن التفاهم مع حملة السندات وصندوق النقد سيغدو مستحيلًا بعد إنشاء الصندوق. أمّا المخيف، فهو أنّ نوّاب الأمّة لم يجتهدوا للحصول على رأي قانوني موضوعي، يبيّن مخاطر الفكرة على احتياطات مصرف لبنان. هذه المخاطر، قد تحمّل موجودات المصرف المركزي، أي حقوق المودعين، خسائر لا يمكن تصوّرها.