تجاوزت الدول المتطوّرة مراحل كبيرة في تنمية مجتمعاتها وأفرادها، وانتقل مفهومها السياسيّ من إدارة الشأن العام، إلى فنّ تحقيق رفاهية الإنسان. أما بعض الدول، فلا يزال عاجزاً عن تأمين أبسط حقوق مواطنيه، والكهرباء نموذجاً. إذ أصبح الحديث عنها في القرن الواحد والعشرين مسألة غريبة. أمّا عندنا، فحلّت قصتها مكان «إبريق الزيت» وباتت التيار الفاصل بين الحداثة والتخلّف. نورها أو عتمتها، يكشفان العقول والضمائر لدى المسؤولين. يمكن للحكّام تلميع صورتهم أو إخفاء ثروات فسادهم تحت «سِتِر» السريّة المصرفية والمخارج القانونية وأن يسرحوا ويمرحوا في ملاعب السياسة وصفقاتها تحت أجنحة الليل. لكن ما لا يستطيعون إخفاءه أو تمويهه تحت أي غطاء، هو عجزهم وانعدام إرادتهم وقدرتهم على تحقيق أدنى متطلّبات ومعايير الحياة المعاصرة، الكهرباء. هل تُخفى مدينة مُظلمة فوق دولة فاسدة؟
من مفارقات الكهرباء في لبنان، أنها تحوّلت إلى شاهدٍ على كلام الناس ورواياتهم. إذا كنّا نروي «خبرية» وتزامنت مع انقطاع التيّار الكهربائي أو إعادته، نقول «بشهادة الكهربا». هي أداة توكيد على حضور الدولة وغيابها، عندما يعود التيّار نقول «إجت الدولة». هل تتبدّل المقولة لتُصبح: «جاءت البلدية»؟ وتتحوّل الطاقة الشمسية من بديلة إلى أساسية مع تقاعس الحكومات المتعاقبة على معالجة أزمة الكهرباء المزمنة؟ أي دور للبلديات التي مدّها القانون بصلاحيات واسعة، وأنيطت بها مهمّة تعزيز التنمية المحليّة، ومنها إنارة القرى والشوارع وحياة المواطنين؟
أمام عجز مؤسسات السلطة المركزية، برزت في السنوات الأخيرة مبادرات فردية ومحلية قامت بها البلديات مباشرة، أو من خلال التعاون مع مؤسسات ومنظمات دولية وغير حكومية. أو عبر «الأيادي المعطاة» للمُساهمة في تمويل مشاريع ومزارع الطاقة الشمسية تعويضاً عن دولة المزرعة.
بلديات تتجرّأ
أوّل من تجرّأ أو استشرف العتمة التي ستهبط بوسع مداها وبكل معانيها وأطيافها على «درّة الشرقين»، كانت بلدة بشعلة (حصل ذلك في العام 2019 أي على عتبة الأزمة التي سوف تبتلع لبنان)، الرائدة بتوليد الكهرباء عبر الطاقة الشمسية لا من وزارة الطاقة وكلّ الطاقات المسجونة في براميل الفيول. وعندما غنّت فيروز في أنشودتها للحرية قبل 45 عاماً «طلعنا على الضوّ، طلعنا على الريح، طلعنا على الشمس، طلعنا على الحرية…»، تصلح هذه الكلمات أن تكون شعاراً تطبيقيّاً للكهرباء وليس للحريّة فقط. كون الشمس والرياح والضوء من المصادر المتوفرة في لبنان لصناعة الطاقة.
بالعودة إلى تجربة بشعلة بعد 4 سنوات على تنفيذها، يُشجّع رئيس مجلسها جان رزق على اعتماد الطاقة النظيفة رغم الصعوبات والتحديات اللوجستية والتقنية من صيانة وتجديد الشبكة كل 3 سنوات. ويقول لـ»نداء الوطن»: «مع انطلاق المشروع، كانت ساعات التغذية المتوفّرة من قبل مؤسسة كهرباء لبنان مقبولة، وتخفّف الضغط على الطاقة الشمسية. أما اليوم ومع الإنقطاع الدائم لـ»كهربة الدولة»، فلم يعد باستطاعتنا تأمين أكثر من 15 ساعة خلال الـ24، و70% منها على المازوت لتشغيل مولدات الطاقة». وكشف أنّ البلدية تعمل على توفير رأسمال ضخم لتحسين وتكبير مشروع الطاقة الشمسية بما يتناسب مع التحديات الراهنة، والقدرة على تغطية أوسع وساعات أكثر.
وعن الجباية، يشير إلى أننا «وضعنا عدّادات ذكية، وفتحنا حساباً جارياً مع المواطنين على أساس 200 كيلوواط، ثمّ نأخذ عدّاد وزارة الطاقة ونحتسب قيمة الكيلو. أما كلفة الفاتورة فهي مرتبطة بالصرف. هناك منازل تصرف 100 كيلو خلال شهر أو أكثر، وهناك من يصرف 200 كيلو أو أقلّ. على أثرها يتمّ احتساب سعر الكيلو الواحد (23 ألف ليرة)، إضافة إلى رسوم الصيانة والتي تبلغ حوالى 230 ألف ليرة. فالكلفة النهائية للـ100 كيلوواط، مع خصم كلفة الـ45 كيلو التي يسحبها العدّاد الذكيّ تلقائياً، تكون حوالى مليون و500 ألف ليرة.
كما في البترون، كذلك في قضاء راشيا، حيث حطّت الطاقة الشمسية في بلدية كفرمشكي بمساهمة جمعيات عدّة في تمويلها، منها كاريتاس و»USAID». بدأ العمل عليها منذ العام 2019. وفي بلدة الماري – المجيدية (قضاء حاصبيا) يكشف رئيس بلديتها يوسف فيّاض لـ»نداء الوطن» أن البلدية قامت بدراسة منذ سنتين من أجل تنفيذ مشروع الطاقة الشمسية لتغذية معظم البيوت بالتيّار الكهربائي»، لافتاً إلى أن «التمويل سوف يؤمّن من قبل الـUSAID «. وأكّد «أننا سنباشر التنفيذ بعد الإنتهاء من مرحلة التلزيم»، متوقّعاً أن تبدأ العملية خلال شهر. يُشار إلى أن الماري كانت من أولى البلديات في قضاء حاصبيا التي اعتمدت على مولّداتها الخاصّة لتأمين الكهرباء إلى المنازل عوضاً عن أصحاب «الموتورات». لكن تمّ توقيفها بعد استفحال الأزمة وغلاء المازوت واعتماد بعض السّكان على ألواح الطاقة الشمسية حسب إمكانياتهم.
الصعوبات المالية
لعلّ أبرز العراقيل التي قد تواجهها البلديات في مسيرة الإعتماد على الطاقة النظيفة، هي المال. كيف لها أن تقيم مشروعاً باهظ الثمن، فيما هي عاجزة عن تأمين مستحقات موظفيها؟ حتى طرق أبواب الجهات المانحة ليس بالأمر السهل وقد يأخذ وقتاً. ما الحلّ؟
الخبير الإقتصادي ورئيس جمعية «المعهد اللبناني لدراسة السوق» باتريك مارديني، يُخفّف من وزر الأعباء المالية وهمّ تأمينها. يقول في حديثٍ لـ»نداء الوطن»: «صحيح أن الجهات الدولية والمانحة ناشطة عالميّاً لتعزيز اعتماد المجتمعات على الطاقة المتجددة، لكن البلديات «مش بحاجة لحدا»، قادرة على تأمين التمويل اللازم بقدراتها الذاتية». يوضح: «في عملية حسابية بسيطة، يمكن للبلدية بالتعاون مع أهالي البلدة، أو عبر جذب مستثمرين بكلفة 100 ألف دولار، تشييد مزرعة للطاقة الشمسية، كفيلة بتغذية 200 منزل/ 10 ساعات كهرباء يوميّاً على فترة سنة. في هذه الحالة، يقوم المستثمر بأخذ رسم اشتراك 50 دولاراً شهريّاً عن كلّ بيت. وتمدّد البلدية عقد الإستثمار لسنة إضافية أو حسب الإتفاق بين الطرفين. في هذه العملية التي تمتدّ لسنتين، يكون فيها المستثمر قد استردّ رأس المال، وحقق ربحاً إضافيّاً (100 ألف دولار) من جهة، وساهم في التنمية المحلية المستدامة وحلّ مشكلة الكهرباء من جهة أخرى».
ويشدّد على أنّ «البلديات قادرة على القيام بالكثير، إذا توفّرت الإرادة والإدارة. لكن حسب خبرتنا مع البلديات، يتّجه العديد منها نحو الجهات المانحة. هذا جيّد. لكنّه يعكس بالمقابل، عدم رغبة البلديات بتحمّل مسؤولياتها (بفضلوا كل شي مجّاني).
تجربة تولا
ختم مارديني متحدّثاً عن تجربة مزرعة قرية تولا، التي استطاعت بكلفة 120 ألف دولار إمداد جميع بيوت القرية (البالغة نحو 200 بيت) بمعدل 10 ساعات من الكهرباء في اليوم، ترتفع في الصيف إلى 14 ساعة وتنخفض في الشتاء إلى 4 ساعات. ويوفّر الاشتراك بقية التغذية، فباتت القرية تنعم بـ24 ساعة من الكهرباء يوميّاً. مشيراً إلى أنّ «معدل إنتاج الكهرباء على الطاقة الشمسية في تولا يبلغ 7 سنتات لكل كيلوواط /ساعة. ويمكن الإفادة من تجربة تولا في المناطق كافة عبر جذب الإستثمارات الخاصة في مزارع طاقة شمسية والتعاون مع المولدات للتوزيع برعاية البلدية».
أما بخصوص الجباية، فيشير مارديني إلى أنه من أصل 24 ساعة/ اليوم، هناك حوالى 14 ساعة في الشتاء، تتغذّى على «الموتورات» و10 ساعات على الطاقة. وبما أن المزارع الشمسية هي من تبرّعات المغتربين، فيدفع الناس كلفة المازوت التي صرفتها المولّدات فقط. لافتاً إلى أن فاتورة «الإشتراك» في تولا هي أقل بـ20% من التسعيرة الرسمية للمولّدات الخاصة التي تحدّدها الدولة (يُذكر أن معظم أصحاب المولّدات في الشمال لا يلتزمون بها). و50% أقلّ من تسعيرة المولدات غير الرسمية.