هل تشهد الضاحية الجنوبية ثورة على المولّدات مماثلة لتلك التي حصلت في مدينة صيدا؟ الدعوى القضائية التي تقدّمت بها بلدية الغبيري تنبئ بمواجهة وشيكة مع أصحاب المولّدات، خصوصاً بعدما طلبت القاضية غادة عون من جهاز أمن الدولة مراقبة التزام أصحاب المولّدات بالتسعيرة الرسمية للدولة
المولّدات دجاجة تبيض ذهباً، لكنها كثيرة المشاكل، مزاجية، لا تخضع لقانون ولا تعنيها الحالات الإنسانية. تعرف هذه الدجاجة تماماً حاجة النّاس إليها في وقت وصلت فيه ساعات التغذية بالتيار الرسمي إلى «الصفر المطلق». وبسبب هذه الحاجة، لم تعد هناك حدود لتوحّش أصحاب المولدات، حتى وصل الأمر إلى رفع لواء «اشتراك واحد لا شريك له». في حال لم يعجبك السّعر، أو ناقشت، يُقطع عنك شريان الكهرباء، ولن تتمكن من إعادة التيار إلى منزلك مهما حاولت عبر الطرق القانونية، فلا يبقى لديك حلّ إلا التذلّل. يخضع الناس، ولا يجدون مواساة إلا كيل الشتائم للمتحكّمين بهم.
صاحب «ميني ماركت» في منطقة بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت يدفع تسعة ملايين ليرة لمولّد الحي كي يتمكن من حفظ الأجبان في براد صغير، وعندما تسأله عمن يكون صاحب الاشتراك، يجيب «من عند أكبر حرامي».
ملفّ المخالفات
يرسم تعاطي أصحاب المولّدات مع المشتركين في الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت فسيفساء، بقطع غير مترابطة تشكّل صورة غير واضحة. لا يمكن تعميم الأحكام فيها بشكل مطلق، والاختلاف بين حيّ وآخر يمكن أن يكون حسب ساعات تشغيل المولّد، أو رسم الاشتراك، وحتى العملة التي على أساسها يتم الدفع.
في منطقة الكفاءات مثلاً الرسوم بـ «الدولارات الطازجة»، ولا يقبل أحد أصحاب المولّدات أن يقبض بالليرة اللبنانية أبداً، لذا عليك كمشترك التفتيش عن صرّاف وتحويل أموالك من الليرة إلى الدولار قبل التوجه للدفع. الأمر نفسه يمتدّ إلى منطقة الرويس، هناك تخال أنّك في ولاية أميركية، إذ لا يقبل صاحب الاشتراك سوى العملة الأجنبية مهما كان شكل المعاملة: تأمين، ثمن عدّاد، وصل شريط وحتى الصيانة التي لا تستلزم تبديل قطع.
بعض أصحاب الاشتراكات، لزيادة أرباحه، اخترع فكرة المشترك العادي والمشترك الـvip. الأول يحصل على عدد ساعات قليل من الكهرباء مقابل الدفع على التسعيرة الرسمية، أما الثاني فيتميّز بتغطية 24/24 مقابل الدفع بالعملة الأجنبية بدلاً أعلى بـ40% من تسعيرة الدولة.
أما سوء التعامل مع المشتركين فحدّث ولا حرج. يبدأ من التهديد بقطع الكهرباء ويصل إلى حدّ الضرب والطرد. في منطقة حي الجاموس قامت وزارة الاقتصاد بإنذار صاحب مولّد وكتبت فيه ضبطاً لمخالفته التسعيرة الرسمية، فقام بقطع الكهرباء عن الحي ليومين. وعند الاستفسار أكثر عن الأسباب تجد أنّه أراد بهذه الحركة «تربية الناس»، أحدهم اشتكى فكانت العقوبة جماعية. وفي حي ماضي، العدّادات هي لزوم «الديكور» اللازم لدفع «كبسات وزارة الاقتصاد»، والناس هناك يقولون إنّهم «يدفعون مهما كان الرقم المطلوب، لا بديل».
أما ساعات التشغيل فهي غير محكومة بقانون أو عرف، وإنما بمزاجية صاحب المولد ومدى رضاه عن المشتركين. «صرنا نخاف النقاش معه» يقول أحد سكان الرويس، مؤكداً أن آخر مطالبة منه لمعرفة ساعات التشغيل أدّت إلى قطع الكهرباء عن المبنى المعترض.
جنّة الشياح
لا يقدّم عدد من أصحاب الاشتراكات رواية متماسكة حول النقاط الثلاث: ساعات التشغيل، الرسوم وعملة الدفع. في منطقة بئر العبد يقع موقع أحد أشهر أصحاب الاشتراكات وأكثرهم إثارة للجدل، تدخل طالباً منهم مقابلة صاحب المولد فتبدأ محاولات الأخذ والرّد والتملّص بحجة عدم وجوده في لبنان. تسأل عن تكاليف تشغيل المولّد فيتحوّل السؤال مباشرة إلى أحد أسرار «عملية تخصيب اليورانيوم». ربما تفهم السر خلف عدم الإجابة على هذا السّؤال، بما أنّ كلّ عملية احتساب التعرفة الشهرية تقوم عليه.
أما منطقة الشياح فهي أشبه بالجزيرة إذا ما قورنت مع كلّ ما سبق. هناك الكهرباء المنتجة من المولدات تغطي تقريباً الـ24 ساعة، بالتسعيرة الرسمية. وخلال أزمة المازوت العام الماضي لم تنقطع الكهرباء ولم تكن المولدات تقنّن من إمداداتها. سكان الأحياء يشيرون إلى أنّ أحد النافذين والمتموّلين قام منذ فترة طويلة بكسر الاحتكارات عبر وضع مولّدات في الأحياء وبيع الكهرباء بسعر وزارة الطاقة، ما أجبر «زملاء الكار» على مجاراته، ومن لم يستطع قام ببيعه المولد. ولكن هذا لم يكن ليجري لولا قوة هذا الشخص غير المستندة إلى الدولة أو القانون، بل إلى الأمر الواقع.
تحرّك البلديات
يوافق رئيس بلدية الغبيري معن الخليل على فكرة الفسيفساء غير المترابطة ويقول: «لا يمكن وضع من يضيف 500 ليرة على بدل الكيلوواط الرسمي الصادر عن وزارة الطاقة في سلّة واحدة مع من يزيد 10 آلاف ليرة». وهناك أيضاً في الضاحية الجنوبية من «يلتزم بالتسعيرة الرسمية كما هي» يؤكّد الخليل. ويرى أنّ «عدم وجود الكهرباء يضطرنا للتعايش مع الكارتيل، واليوم نحاول الحدّ من سيطرتهم على مفاصل حياة الناس». يوضح: «بعدما تبيّن ضعف المسار المعتمد على وزارة الاقتصاد ومداهماتها بسبب البطء في الملاحقات، وعدم تحويل كلّ المحاضر إلى القضاء، توجّهنا صوب مدعي عام بعبدا القاضية غادة عون». بدورها، طلبت من جهاز أمن الدولة تكثيف التنسيق مع البلديات في الضاحية واتحادها، وتحويل الملفات إلى القاضي الجزائي الأول القادر على إصدار أحكام بشكل مباشر، ورفع الغرامات حتى 200 مليون ليرة وتكرارها في حال عدم الالتزام.
ويلفت الخليل إلى عناصر قوة أخرى تستند إليها البلدية «وهي استخدام أصحاب المولّدات للأملاك العامة من دون بدل، ففي حال أصرّ أحدهم على عدم الالتزام وهدّد بإطفاء مولده، يمكننا بكل بساطة مطالبته بدفع الرسوم عن إشغال الأملاك العامة عن كلّ السنوات الماضية من أعمدة وطرقات، وطلب التعويض عن الأضرار البيئية التي تسبّب بها». ويشير الخليل إلى «قدرة البلديات على تشغيل بعض المولدات لا كلّها بشكل مؤقّت. وخروج أحدهم من السّوق ليس بآخر الدنيا، فبعد أن يفك كلّ كابلاته يمكن لغيره الدخول والالتزام بالشروط». ويستشهد على ذلك بحوادث مشابهة جرت في نطاق بلدية الغبيري.
مصادر في اتحاد بلديات الضاحية تلفت إلى أنّ المطلوب هو الوصول إلى «العدالة في التسعير لا تسلّم المولدات من أصحابها»، وتطلب من الناس «الصبر خلال المرحلة المقبلة والضغط معهم للوصول إلى الحلول المناسبة للجميع». وتشكو المصادر من «الناس الذين يريدون الكهرباء فقط، وفي حال وقوع مخالفات لا يقدّمون شكاوى بأسمائهم الشخصية وهذا ما ضاعف من فرعنة أصحاب المولّدات». وتضيف المصادر أنّ «هناك جهات فاعلة على الأرض تعرض إنزال مولداتها للضغط نحو الحل، ولكن هذا ليس هدفنا، ونأمل أن لا يضغطنا أصحاب المولدات باتجاه خيارات جذرية، فنحن سنكون مع ناسنا».
الاحتكار يجرّ الاحتكار
وجد أصحاب المولدات في المصلحة باباً دخلوا منه صوب احتكارات أخرى. يسيطر أحدهم على ثلاثة أحياء كبيرة في المريجة والمعمورة، استغلّ فيها نفوذه ومدّ، بالإضافة إلى خطوط الكهرباء، اشتراكات الإنترنت والساتلايت، محكماً بذلك قبضته على خناق الناس وصار يُحصّل بدل الفاتورة ثلاثاً من كلّ منزل. ولتنظيم العمل أكثر افتتح لكلّ حيّ مكتباً مستقلاً. أما الناس هناك فيقولون: «لا حول لنا ولا قوة»، لا أحد يتمكن من كفّ يده، «إنّه محميّ حزبياً»، أو هكذا يدّعي كونه يقدّم اشتراكات مجانية إلى مراكز حزبية في المنطقة.