البنك الدولي: سوق رقمية مشتركة ومشروع تكامل تجاري سيعززان تعافي اقتصاد الشرق الأوسط

«نحن مستعدون لمساعدة بلدان المنطقة على تحقيق التوازن الصحيح بين الأهداف السياسية والاقتصادية»، هكذا وصف فريد بلحاج، نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في حوار مع «الشرق الأوسط»، ضمان البنك الدولي حتى لا تُمنى الاتفاقات التجارية في المنطقة بالفشل.
يأتي هذا التوجه، بحسب بلحاج، مع اقتراح إيجاد إطار لتنسيق آليات التكامل التجاري في المنطقة، يتجاوز تخفيض الرسوم الجمركية للمساعدة على تسهيل عمل سلاسل القيمة الإقليمية، ويُمهّد السبيل نحو الاندماج في سلاسل القيمة العالمية، مشيراً إلى أن ذلك يمكن أن يبدأ من خلال الأمن الغذائي وأنظمة الرعاية الصحية والطاقة المتجددة واقتصاد المعرفة.
ويرى بلحاج أن مشروع الإصلاح الاقتصادي السعودي حقق خطوات فاعلة، يبرز في مقدمتها التقدم الكبير في سوق العمل من حيث التحاق المواطنين السعوديين – لا سيما النساء – بالمزيد من وظائف القطاع الخاص، بالإضافة إلى توجيه النظام التعليمي نحو اكتساب مهارات المستقبل، مشيراً إلى أن «رؤية المملكة 2030» ركّزت تركيزاً كبيراً على القضايا المتشابكة، وأنشأت هيكلاً لمعالجتها، كما وضعت مؤشر الأداء الرئيسي النهائي هو نمو القطاع الخاص غير المحمي.
ويعتقد بلحاج أن نمو القطاع الخاص سيُشكّل التحدي الرئيسي الذي تواجهه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأسرها، متوقعاً أن نواتج «رؤية المملكة 2030» ستسترشد بها المنطقة برمتها كنموذج للتحول. إلى تفاصيل الحوار:

* تقرير البنك الدولي الجديد عن أحدث المستجدات الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يناقش الصدمات المزدوجة لانهيار أسعار النفط وفيروس كورونا المستجد. فما هو تأثير هذه الصدمات على اقتصادات المنطقة، وما هي – في رأيك – سبل التعافي منها؟
– لقد أثَّرت الصدمات الاقتصادية المزدوجة لتفشي جائحة فيروس كورونا وانهيار أسعار النفط على كل جوانب اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويتوقع تقريرنا الجديد الذي صدر أخيراً أن تشهد اقتصادات المنطقة انكماشاً نسبته 5.2 في المائة في عام 2020 – وهو أقل 4.1 نقطة مئوية عما كان متوقعاً في أبريل (نيسان) الماضي – وتراجع بنسبة 7.8 نقطة مئوية عن الآفاق المستقبلية التي أوردها تقرير أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وتكشف أحدث البيانات عن آفاق مستقبلية تزداد تشاؤماً للاقتصاد الإقليمي الذي يُتوقع ألا يتعافى إلا جزئياً في عام 2021.
وفي ظل انخفاض عائدات تصدير النفط، وتراجع إيرادات المالية العامة الأخرى، والنفقات الكبيرة المطلوبة للتصدي للجائحة، من المتوقع في عام 2020 أن تُسجّل حسابات المعاملات الجارية وأرصدة المالية العامة في المنطقة انكماشاً بين 4.8 و10.1 في المائة من إجمالي الناتج المحلي على الترتيب، وهو ما يقل كثيراً عن آفاق الاقتصاد الواردة في تقرير أكتوبر 2019. ومن المتوقع أن يسجل الدين العام زيادة كبيرة في الأعوام القليلة القادمة من نحو 45 في المائة من إجمالي الناتج المحلي في 2019، إلى 58 في المائة في 2022. وسيتمثل أحد أهم عوامل التعافي الاقتصادي للمنطقة في قدرة البلدان على إيقاف تفشي فيروس كورونا وحماية شعوبها ورعايتهم.
* وهنا، كيف يساعد البنك الدولي بلدان المنطقة في مواجهة هذا الواقع؟
من خلال أمرين، ففي مختلف أنحاء المنطقة، قدّم البنك الدولي نحو 700 مليون دولار من المساندة الطارئة للمساعدة في تلبية احتياجات الصحة العامة الأكثر إلحاحاً، منها سبع عمليات جديدة، وأعاد توجيه التمويل من 10 مشروعات قائمة. ويساند البنك أيضاً الأفراد، ويساعد البلدان على توسيع مظلة شبكات الأمان الاجتماعي، ومن ذلك التحويلات النقدية للفئات الأكثر احتياجاً، فضلاً عن مساندة منشآت الأعمال الصغيرة. ومن الأهمية بمكان أن تشرع بلدان المنطقة، في الأمد المتوسط، في تطبيق إصلاحات هيكلية لاستعادة النمو إلى سابق عهده. وأنجع السبل لبلوغ هذه الغاية هي تشجيع المنافسة، وتبنّي مبتكرات التكنولوجيا الرقمية، والسعي إلى تحقيق التكامل التجاري.
* ناقش التقرير أهمية التجارة والتعاون الإقليمي، فما هي توصياتك لبلدان المنطقة؟
سيساعد اعتماد إطار جديد للتكامل الإقليمي في تحفيز التعافي الاقتصادي والتنمية المستدامة الأطول أجلاً. ويُظهِر هذا التقرير مدى ضعف مستوى تكامل بلدان المنطقة – فيما بينها ومع بقية بلدان العالم – قبل الجائحة، ويقترح إطاراً جديداً للتكامل التجاري يتجاوز مجرد تخفيض الرسوم الجمركية. ويجب أن يكون تحرير التجارة شاملاً، وتستفيد منه كل القطاعات. ومن دون تحسين البيئة العامة للأعمال أو تشجيع دور القطاع الخاص، فإن المنطقة لن تجني منافع تحرير التجارة.
وعلى صعيد التنفيذ، نحن مستعدون لمساعدة بلدان المنطقة على تحقيق التوازن الصحيح بين الأهداف السياسية والاقتصادية لضمان ألا تُمنى الاتفاقات التجارية بالفشل. وسيساعد إيجاد إطار لتنسيق آليات التكامل التجاري في المنطقة على تسهيل عمل سلاسل القيمة الإقليمية، ويُمهّد السبيل نحو الاندماج في سلاسل القيمة العالمية.
وقد أوصينا بالتركيز على التجارة على الصعيد الإقليمي في قطاعات مثل الأمن الغذائي، وأنظمة الرعاية الصحية، والطاقة المتجددة، واقتصاد المعرفة. ويقترح التقرير إنشاء سوق رقمية مشتركة في المنطقة حتى يتسنّى لبلدانها تحسين الترابط التجاري والرقمي مع الأسواق الأوسع نطاقاً في أفريقيا ومنطقة البحر المتوسط. ومن شأن ذلك أن يساعد على زيادة الإنتاجية، وتنسيق استجابات تتسم بالكفاءة للتصدِي للجائحة، وتعزيز جهود خلق وظائف تتسم بالشمول والاستدامة والصمود في وجه الأزمات في المنطقة. وتتيح اتفاقية منطقة التجارة الحرة لقارة أفريقيا فرصة كبيرة لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء لتبسيط التدابير التجارية وتحقيق اتساقها.

* كيف زاد فيروس كورونا من معاناة الفقراء في المنطقة التي تواجه بالفعل توتراً ومصاعب سياسية؟ وكم عدد الفقراء في المنطقة، وما هو متوسط دخلهم؟
لا يساورنا شك في أن الأزمة تسببت في خسائر اقتصادية جسيمة وآلام اجتماعية. ومع ذلك، لا يزال الوضع متقلباً. من الصعب تقديم تقديرات دقيقة لخسائر الدخل والزيادات اللاحقة في عدد الفقراء. في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، للأسف، نواجه أيضاً تحدياً يتمثل في نقص الوصول إلى بيانات المسح البياني الموثوقة. في الواقع، تعود أحدث الدراسات الاستقصائية للأسر المتاحة في بعض البلدان إلى 2011 – 2012.
ومع ذلك، وبالنظر إلى المعلومات المتوفرة لدينا، فإننا نقدر حالياً ذلك، نتيجة لانخفاض النمو الاقتصادي خلال عام 2020 بنسبة 7.8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للمنطقة للعام 2019، وهو ما يعادل أكثر من 230 مليار دولار (وفق سيناريو من دون أزمة) زاد الفقر بنحو 12 مليوناً إلى 15 مليون شخص في عام 2020 وحده عند خط فقر الدخل المتوسط البالغ 5.50 دولار أميركي في اليوم. ونقدر أن العدد قد يرتفع إلى ما يزيد على 23 مليوناً بحلول نهاية عام 2021. ومع ذلك، فإن كلا التقديرين متحفظان؛ لأننا نعلم من الاستطلاعات الهاتفية أن الأسر الفقيرة والضعيفة قد تأثرت بشكل غير متناسب بالأزمة المستمرة.
* تندرج دول مجلس التعاون الخليجي في مصاف البلدان التي تتمتع بأعلى دخل للفرد في العالم، فما هي توصياتك لدول المجلس حتى تُحقّق قفزة تاريخية في التنمية وتحسين النمو الاقتصادي؟
على الرغم من أن دول مجلس التعاون الخليجي حقَقت تقدماً مهماً على صعيد أجنداتها للتنمية، فإنه لا تزال هناك مشكلات عدة عالقة يجب معالجتها. وسيكون تحقيق مزيد من تنويع الأنشطة الاقتصادية والنمو الذي يقوده القطاع الخاص ضرورياً، وسيتطلب تدعيم إصلاحات سوق العمل والتعليم من أجل زيادة معدلات الإنتاجية وتوسيع الفرص الاقتصادية المتاحة للأيدي العاملة.
ينبغي ألا ننسى الاقتصاد الرقمي والمهارات اللازمة لتطويره بين كل الأولويات المتعارضة. ومعدلات مشاركة الإناث في القوى العاملة لا تزال متدنية في دول المجلس، وقد تؤدي التدابير الرامية إلى تحسين مؤهلات النساء للتوظُف على الاستفادة بشكل كامل من الإمكانات الإنتاجية لرأس المال البشري في المنطقة. علاوة على ذلك، قد تساعد الجهود الرامية إلى ضمان اتساق نواتج التعليم والتدريب مع متطلبات أرباب الأعمال على تقليص الفجوات وأوجه النقص في المهارات التي لوحظت في أسواق العمل في المنطقة.
وستستفيد أيضاً دول المجلس كما هو الحال في كل بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من تعزيز الشفافية ومستويات المساءلة في إدارة مؤسسات المالية العامة من أجل الحد من المخاطر المالية. ويُشكّل توسيع نطاق الإصلاحات بحيث تؤدي إلى النهوض بنظم الحوكمة والإدارة الرشيدة، وإيجاد مناخ أكثر جذباً للاستثمار، بما في ذلك جهاز قضائي يتميز بوضوح الإجراءات وسرعة البت والفصل في القضايا، ودرجة أكبر من التنافسية في السوق جزءاً من المجموعة التي أطلق عليها «إصلاحات لا مجال للندم عليها مهما حدث». وهذه متطلبات مسبقة لتمكين القطاع الخاص من الاضطلاع بدوره كمحرِك للاقتصاد، وتحقيق نمو أكثر استدامة وإنصافاً.
* تمثل السعودية إحدى الركائز الاقتصادية القوية للمنطقة، فما هو تقييمك لسلسلة الإصلاحات الاقتصادية التي شرعت في تطبيقها في الآونة الأخيرة؟
من السابق لأوانه تقييم السلسلة الكاملة للإصلاحات الاقتصادية. والأجدى أن ننظر إلى النجاحات والتحديات الماثلة في مختلف مجالات الإصلاح. ومن المهم الحفاظ على مسار أجندة التنمية والإصرار والمثابرة على تنفيذها. وتستغرق الإصلاحات وقتاً حتى تُحقّق النتائج المرجوة في الاقتصاد؛ ولذا فمن الضروري أن يتحلّى واضعو السياسات بالصبر مع السعي الحثيث.
وقد تحقَق تقدم كبير في سوق العمل من حيث التحاق المواطنين السعوديين، لا سيما النساء، بالمزيد من وظائف القطاع الخاص، وتوجيه النظام التعليمي نحو اكتساب المهارات المطلوبة في المستقبل. وسيكون تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتوظيف التي اعتمدت في الآونة الأخيرة وسيلة مثالية لتعزيز التقدم نحو تحقيق هذه الإصلاحات.
ولكن كما هو متوقع، فإن تطبيق إصلاحات أخرى يلقى صعوبات. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أنه تحقّق تقدم في تنويع إيرادات المالية العامة، ازدادت صعوبة مواصلة هذه الإصلاحات في خضم أزمة «كورونا».
* هل ترى أن اعتماد برنامج تجريبي ذي أهداف واضحة مثل برنامج «رؤية 2030» في السعودية نموذج عمل يمكن أن يؤدي إلى النهوض بالاقتصادات الأخرى في المنطقة؟
تحظى «رؤية 2030» بأهمية بالغة في تحديد الطموحات التحولية للمملكة. وكانت تختلف عن رؤى سابقة في المملكة وأماكن أخرى في المنطقة من حيث زخم تنفيذها. ونحن الآن في العام الخامس منذ الموافقة على هذه الرؤية، وهي لا تزال تستنهض الحكومة لتنظيم نفسها على نحو مختلف، والسعي الحثيث من أجل تحقيق النتائج. وهذا أمر يثير الدهشة بالفعل، فمعظم الرؤى لم تصل إلى هذه المرحلة.
وثمّة دروس نافعة يمكن استخلاصها، مثل ضرورة قياس مؤشرات الأداء الرئيسية من أجل الإدارة على نحو متسق للتوازن بين نهج ينطلق من القمة إلى القاعدة ونهج يعتمد اللامركزية بدرجة أكبر.
وقد ركّزت الرؤية أيضاً تركيزاً كبيراً على القضايا المتشابكة، وأنشأت هيكلاً لمعالجتها – برامج تحقيق الرؤية. وسيكون من المثير للاهتمام رؤية كيف ستحدّد باقي أجهزة الحكومة – الأجزاء التي لم تشملها بشكل مباشر برامج تحقيق الرؤية – مساهمتها في التنفيذ الناجح للرؤية.
ومؤشر الأداء الرئيسي النهائي هو نمو القطاع الخاص غير المحمي، والذي ربما يُشكّل التحدي الرئيسي الذي تواجهه منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأسرها. ولهذا السبب؛ فإن نواتج الرؤية ستسترشد بها المنطقة برمتها كنموذج للتحول.

مصدرالشرق الأوسط - محمد الحميدي
المادة السابقةالسودان يحرر أسعار الوقود لمعالجة أزمات الشح والتهريب
المقالة القادمة6 شركات تكنولوجية أميركية تفقد 270 مليار دولار من قيمتها في يومين