دخل لبنان في سباق محموم مع الوقت على كافة الأصعدة. إنهيار الهيكل السياسي والبنيان الاقتصادي تحول إلى متسابق أساسي على حلبة الإصلاح وإعادة النهوض. عمليات رفع الركام ستعيد اللهب لجمر الانهيار الاقتصادي الذي غطاه رماد الفاجعة منذ زلزال الرابع من آب. وستتكشف المعاناة الحقيقية في القطاعات الانتاجية والخدماتية، والتي لن تعوض عنها كل المساعدات والتبرعات المحلية والدولية.
“المؤتمر الدولي الإفتراضي لمساعدة بيروت والشعب اللبناني” جمع ما يقارب 300 مليون دولار من المساعدات الإغاثية الفورية. التبرعات توزعت على القطاعات الصحية، التربوية والغذائية بشكل أساسي وانقسمت بين مادية وعينية، ولو ان الكفة “طابشة” لمصلحة الاخيرة. الجسور الجوية التي فتحت مع لبنان حملت المعدات والمستلزمات الطبية والمواد الغذائية بمئات الاطنان، وفرنسا تكفلت بدفع اقساط التلامذة في المدارس الفرنكوفونية. فيما لم تحدد قيمة البدلات المادية وكيفية توزيعها.
الحكومة برا
المساعدات في الكوارث تصل في العادة إلى الحكومات. فهي تمتلك القدرات اللوجستية الاكبر لاحصاء الاضرار والمتضررين وتوزيع الاعانات بشكل عادل. لكن في لبنان الوضع مختلف فانعدام الثقة بالسلطة الفاسدة اجبر المجتمع الدولي على اشتراط توزيع التبرعات بشكل مباشر وتحت مظلة الامم المتحدة. وهو ما يحمل بحسب مستشار “الاسكوا” السابق وخبير التنمية المستدامة أديب نعمة دلالة سياسية بالغة الاهمية مفادها أن “المجتمع الدولي يحجم عن التعامل مع الحكومة نتيجة فسادها المستشري وعدم الثقة بأدائها. والاخيرة لا تملك خيار الرفض، على الرغم من إبداء الكثير من الوزراء انزعاجهم مما يحصل”. نعمة الذي لا يعتقد ان “الامم المتحدة ستتصرف كلياً خارج الحكومة حيث من الممكن ان تتصل بجهاز عام أو أكثر من الاجهزة التي تتفق معها”، يؤكد ان “الانفاق سيكون غير خاضع لقرار الحكومة كما ان الرقابة والتنفيذ لن يكونا تحت سلطتها”.
القطاع السياحي منكوب
الكلفة الهائلة للخسائر تتزامن مع عجز مطلق عن الاستدانة لاعادة الاعمار وتفعيل الدورة الاقتصادية، واستنفاد مصرف لبنان لـ”أرانب” الهندسات المالية التي كان يخرجها بعد كل محنة تلمّ بلبنان. مختلف القطاعات الاقتصادية ترفض الاستدانة وفق تعميم مصرف لبنان الاخير رقم 153 لتصليح ما تهدم، وتحمّل الدولة اللبنانية مسؤولية التعويض مباشرة.
الخسائر في القطاع السياحي لا تنحصر في الكلفة المادية المباشرة التي “وصلت إلى حدود مليار دولار”، بحسب الأمين العام لاتّحاد المؤسسات السياحية جان بيروتي، بل “تتعداها إلى إقفال قسري قد يطول عن ثلاثة أشهر أو أكثر”. فبيروت المتضررة الأكبر من الحدث تشكل برأي بيروتي “70 في المئة من الحركة السياحية وتضم أكثر من 100 الف موظف أصبحوا بلا عمل”. المبادرة الوحيدة التي تتوارد إلى سمع اصحاب المؤسسات السياحية هي قيام وزارة السياحة بمسح للاضرار. إنما “اداء الدولة لم يعد يعنينا”، يقول بيروتي، “ففي ظل أكبر أزمة يمر بها لبنان لم نستطع نزع قرار واحد من الدولة دعماً للقطاع السياحي. فالدولة غير موجودة على الارض ولا تتحمل مسؤوليتها”.
و”التجاري” يحتضر
“الانفجار كان النقطة التي أفاضت كأس الازمات المتلاحقة التي ضربت القطاع التجاري منذ العام 2011″، يقول نائب رئيس جمعية تجار بيروت باسم البواب. تداعيات الانفجار المباشرة كانت تسريع اقفال قسم كبير من المؤسسات والمحال التجارية بشكل نهائي بعدما كانت تنتظر مطلع العام لتأخذ القرار. وهو ما سيرفع نسبة المؤسسات المقفلة في بيروت بحسب البواب إلى “أكثر من 60 في المئة”. أما الخسائر غير المباشرة فكانت خسارة موسم صيف 2020 الذي كان الكثير من التجار يعوّلون عليه لتأمين بعض العملة الصعبة من المغتربين والسياح والتعويض ولو قليلاً عن خسائرهم المتلاحقة جراء انهيار سعر الصرف. التعويضات عن الاضرار البسيطة للمؤسسات التجارية تكفلت بها غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان. في حين تعجز المؤسسات التي أصيبت باضرار فادحة على صعيد البنيان ورأس المال عن ترميم نفسها ذاتياً، إما بسبب الكلفة الهائلة أو بسبب تبديد المصارف لودائعها. فبحسب الاوساط التجارية تصل كلفة الخسائر في مؤسسة واحدة على الواجهة البحرية إلى 700 ألف دولار، ولا تقل في معظم المؤسسات عن 5 آلاف دولار. وعليه فان الكلفة الاجمالية لاعادة الترميم تبلغ ملايين الدولارات، فيما يتوقع البواب ان “تصل مجمل الخسائر المباشرة وغير المباشرة في القطاع إلى حدود مليار دولار”. في المحصلة ثلثا المحال التجارية أقفلت قسراً والثلث الباقي يعيش “من قلة الموت”.
الحل بالتغيير الحكومي
نسبة التبرعات إلى الخسائر تساوي 0.3 في المئة اذا اعتبرنا ان حجم الخسائر المباشرة قد يصل إلى 10 مليارات دولار. وقد تصل هذه النسبة بأحسن الأحوال إلى واحد في المئة، من دون أن تطال النتائج غير المباشرة وتعطيل الاعمال. وبالتالي إذا “لم يحصل انتقال للادارة وتغيير حكومي يؤدي إلى اعادة انتاج حكومة متوازنة تضع نقاطاً استراتيجية اساسية في العلاقة مع الدول العربية، وفي الانفصال عن المحور الايراني وضبط المعابر الحدودية مع سوريا والمباشرة في الاصلاحات، فان الامور ذاهبة إلى مزيد من الانهيار والحصار والظلم والقهر والذل”، من وجهة نظر عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أنيس ابو ذياب، “وقد ينفجر هذا الاتجاه في وجه الجميع بما هو أكبر وأقوى من إنفجار 4 آب”.
أبو ذياب الذي يضع ما يتعرض له لبنان إقتصادياً في إطار الحصار الاميركي على محور الممانعة و”حزب الله”، يرى ان “هذه الحكومة عاجزة عن القيام بالاصلاحات المطلوبة في الادارة وفي الملفات الحياتية والحيوية وفي مقدمها الكهرباء، التي تعتبر اولوية بالنسبة للمجتمع الدولي الراغب في مساعدة لبنان”. وبحسب أبو ذياب فان “الاندفاعة الحيوية التي بادر اليها بعض الوزراء للاستقالة قد جرت محاولة فرملتها بعد دخول “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” على الخط ومحاولتهما التصعيد لحماية السلطة ووضعها في بازار التفاوض الدولي مساء الأول من أمس، قبل ان تتقدم باستقالتها عصر البارحة”.
لبنان الذي سحب غصباً عنه من قبل “حزب الله” إلى وسط طريق الافيال سيظل برأي ابو ذياب عالقاً إلى حين انتهاء لعبة عض الاصابع بين ايران وأميركا. فالاخيرة تضغط بقيادة ترامب على كسر يد إيران قبل الانتخابات فيما إيران تنتظر نتائج الانتخابات الاميركية لتحدد موقفها”. وإلى حينه يشير الجميع إلى انه لا خلاص من دون تغيير جدي في السلطة والبدء بالاصلاحات.