عقد، بدعوة من جمعية تجار بيروت، لقاء ضم ممثلين عن الجمعيات والنقابات والأسواق التجارية للتداول في مشروع قانون أقرته الحكومة مؤخراً، يفرض ضريبة على كل من قام بتسديد قروضه بقيمة مختلفة عن القيمة الفعلية. وصدر عن المجتمعين بيان دافع عن تجارة الشيكات وممارسات السداد باللولار! وفي ما يلي أبرز ما جاء في البيان:
– تمّ إعداد المشروع الأخير تحت جنح الظلام، من دون مساهمة الوزير المختص (وزير المالية) إلا بعد إقراره. وإن نص مشروع القانون هذا لم يتم التشاور به، كما أتى في متن القرار، إلا مع طرف واحد، دون إستشارة جميع المعنيين الآخرين. كما وأنه لم يتح للوزراء فرصة التعمق والتمحيص فيه، فأتى بصيغة ملتبسة وملتوِية غير قابلة للتطبيق.
– إن هذه الضريبة مبنية على مفعول رجعي، وهذا مبدأ لا يستوي في نطاق نظام ديموقراطي عريق، كالنظام اللبناني، حيث لا يمكن تغيير قواعد اللعبة الإقتصادية والمصرفية التي كانت سائدة البارحة، على هوى مستجدات اليوم. ذلك لأن الفريقين المعنيين، أي بائع الشيك المصرفي وشاريه، أجريا حساباتهما وأخذا قرارهما على أساس المعلومات والمعطيات التي كانت سائدة حين إجراء الصفقة، ولربما قرر أحدهما العزوف عن العملية كلياً لو كانت قواعد اللعبة مختلفة.
– إن الضريبة على تسديد القروض السابقة في نسختها الراهنة تنطوي على تمييز خطير بين اللبنانيين وذلك من خلال الإستثناءات الملحوظة، فثمة قرض إقتصادي وقرض إجتماعي، ودين شخصي مقابل دين مؤسساتي، كما وقرض يصنف بصغير وآخر بكبير، كل ذلك مخالفة للدستور الذي يتساوى أمامه اللبنانيون في الحقوق والواجبات.
– إن حرية التعاقد لطالما كانت ركيزة من ركائز النظام الليبرالي، ومن ضمنها حرية الدخول في معاملات بيع وشراء رضائية بين الأفراد. وإن ثنائية البائع والمشتري لا دخل للدولة بها، كمن يشتري سيارة من شخص آخر يرتضي بسعر محسوم مثلاً لأسباب تعود إليه وحده. فأنى للدولة أن تتدخل بين الأطراف من دون معرفة خصوصية الصفقة، وتعرقِل آليات العرض والطلب؟
– إن بائع الشيك المصرفي بقيمة أدنى من قيمته الإسمية هو الفريق الوحيد الذي اختار أن يضحي بقسم من وديعته وله كامل الحرية بذلك، فيما لم يطل قراره هذا جميع المودعين الآخرين (وذلك بعكس القروض التي سُدّدت على أساس 1500 ل.ل وتمّ إستثناؤها من القانون، فيما هي التي تؤثر بمكان ما على جميع المودعين !).
– وفي حال تم تكليف شاري الشيك بضريبة معينة، يتوجب على الدولة ساعتئذ منح البائع حق تدوير وتنزيل ضريبي أو Tax Credit من باب التعويض، لأن ثمة من “ربح” وثمة من “خسر” طوعاً بهذه العملية بحسب تصنيف الحكومة، فلا يجوز تغريم الأول وحرمان الثاني من حقه الطبيعي في التعويض.
– خلافاً لقانون النقد والتسليف، فإن الشيك المصرفي لم يعد يمثل بهذا القانون وسيلة شرعية للإيفاء، ذلك لأنه لم يعد يغطي المبلغ الدولاري النقدي الموازي بالكامل. فكيف السبيل عندئذ لحل معضلة المدفوعات (ومن ضمنها الإيجارات) التي سددت بجزء بسيط من قيمتها وأودعت لدى كتاب العدل بشرعية كاملة؟
سمح بها مصرف لبنان
– إن المصرف المركزي كان قد أتاح بوضوح تام في تعاميمه حق تسديد الإلتزامات الدولارية للأفراد على أساس سعر الصرف الرسمي. فلو كانت إرادته في ما يتعلق بالمؤسسات مخالفة لإستعمال الشيك المصرفي كوسيلة تقليدية للإبراء، لكان أعلن عنها في حينه. كما وأن المصرف المركزي كان قد أعطى مهلاً واضحة للإستفادة من إمكانية التسديد على سعر 1500 ل.ل الرسمي قبل الإنتقال إلى سعر 15,000 ل.ل.
بنفس المنطق، إن وزارة المال كانت قد حددت في نهاية العام 2020 السعر الفعلي للصرف في السوق الموازية لإستعماله في إحتساب الضريبة على القيمة المضافة. ولو كان لها رغبة معينة في ما يتعلق بسداد القروض لكانت قد بينتها في حينه.
– سبق للقضاء، وفي مناسبات عديدة، أن أصدر أحكاماً باسم الشعب اللبناني لإلزام المصارف بقبول الشيكات المصرفية لإطفاء مطلوبات دولارية لديها. وقد إكتسبت تلك الأحكام قوة الفقه (Jurisprudence) حللت من جرائها جميع الحالات المشابهة. ولا سبيل إطلاقاً للعودة على ذلك.
– يستند مشروع القانون، وبحسب التحليلات التي رافقته، الى فرضيات غير واقعية لجهة حجم القروض المعنية وتالياً للإيرادات الضريبية المتوقعة منها (من المكلفين وطبعاً ليس من المكتومين)، بما أن تسديد القروض السابقة تم بغالبيته من حساب دائن إلى حساب مدين يخصان المودع ذاته. فضلاً عن عمليات بيع العقارات الكبيرة التي قام بها المطورون العقاريون بواسطة الشيكات المصرفية، لمجرد الإيفاء بديونهم الضخمة.
وإن هذا التسرع في تبني الفرضيات يذكرنا بنفس الأسلوب الذي تم إستعماله لإقتراح سبل تمويل صندوق إسترجاع الودائع في خطة التعافي المالي. والواضح أن جميع هذه الفرضيات بعيدة المنال.
النظر المجتزأ
– إن قمة الهرطقة تكمن في التطرق لزاوية واحدة من الأزمة المالية والإقتصادية دون سواها، كالنظر مثلاً في المطلوبات دون الموجودات، أو في الأرباح بقطع النظر عن الخسائر. فإن القطاع الخاص اللبناني سحق بالأزمات المتتالية، وأمواله محتجزة في المصارف، وسحوباته مقننة ومسقوفة، وحجم أعماله تراجع إلى مستويات إفلاسية. وان الخسائر والأضرار بالمليارات التي ترتبت على القطاع الخاص من جراء إنفجار المرفأ لم يتم تقديم أي تعويض عليها من قبل الدولة. لا بل بالعكس، فإن الشركات تكلف على أرباح وهمية سببها التضخم، ليس إلا، فيما خسر التجار أموالاً طائلة على ذممهم الموجودة في الأسواق (receivables)، كما ذاب رأسمالهم بسبب تهالك قيمة المخزون، واستمروا لفترة طويلة في تسديد الفوائد المدينة بينما بلغت الفوائد الدائنة على ودائعهم وإدخاراتهم في المصارف مستوى الصفر.
– إن تسديد القروض في السنوات الماضية شكل، وبحسب صندوق النقد الدولي بالذات، أحد أبرز سببين للإنتعاش الإقتصادي النسبي مؤخراً، بما أنه جرد المؤسسات من أعباء ديونهم، وحرر لهم تالياً إمكانيات مالية للإستثمار والتوظيف وزيادة الرواتب وتحريك العجلة الإقتصادية وتحسين الإيرادات الضريبية. فهل المطلوب هو كسر هذه الديناميكية الفاضلة (dynamique vertueuse)، وإعادة الواقع الإقتصادي إلى نقطة الصفر؟
الدولار القديم والجديد
– يكرس مشروع القانون المقترح، من حيث يدري أو لا يدري، التميز بين الدولار القديم والدولار الجديد، بما أنه ينطلق من مبدأ أن قيمتهما تختلف كلياً. فعملياً وجّهت الحكومة ضربة قاصمة للودائع المصرفية، وأرست عرفاً رسمياً بذلك، الأمر الذي يقضي على آمال المودعين بإستعادة أموالهم، وهو للمفارقة ما يعاكس تماماً الهدف المنشود من قبل معدي القانون.
– إن الدولة هي المسؤول الأول عن المآسي المالية التي يعيشها اللبنانيون، ولا سيما عن إزدهار سوق الشيكات المصرفية (التي هي في صميم إشكالية القروض المسددة)، وذلك بسبب مجموعة من الأخطاء، ومن بينها التخلف غير المنظم عن دفع متوجبات اليوروبوندز وإعلان الإفلاس في آذار 2020.
– إن قمة الغرابة تكمن في أن من تخلف عن الدفع من دون أن يترتب عليه أي مقابل، أي الدولة اللبنانية المفترض بها أن تكون النموذج الصالح للمواطنين، هي من يعير القطاع الخاص ويقتص منه، في حين ان الأخير سدد ديونه وفق القانون وضمن الأصول المرعية. فيا لها من مفارقة جائرة ومن إزدواجية ظالمة في المعايير.