بات مفهوم السوق السوداء عالقاً في أذهان اللبنانيين، ويستحضرونه كلّما جرى الحديث عن ارتفاع للأسعار في أي قطاع. والارتفاع وحده كفيلٌ بتعكير مزاج الناس في ظلّ تضخّم الأسعار والخطر الأمني الراهن، فكيف إذا اقترن ارتفاع الأسعار بالتحذير من سوق سوداء؟
قطاع الغاز تحت الأضواء اليوم، ويحضِّر نفسه لزيادة الأسعار من باب الجعالة، وقد خَرَجَ الملفّ حالياً إلى السطح رغم التحضير له منذ نحو سنة. علماً أن رفع الجعالة على كل قارورة، يستتبع ارتفاع أسعارها على المواطنين.
ربط رفع الجعالة بالأكلاف
لم يأتِ خيار رفع الجعالة من فراغ، وبما أنها جزءٌ من سعر القارورة يذهب للموزّعين والعاملين في القطاع، وهؤلاء هم مَن يسهِّل وصول الغاز إلى المنازل والمؤسسات على أنواعها، يتحرّك أهل القطاع باتجاه تحسين معدّل ربحهم لمواجهة غلاء الأسعار في السوق، ومن بينها أسعار سلع وخدمات تتعلّق بقطاع توزيع الغاز. وحسب رئيس نقابة العاملين في قطاع الغاز ومستلزماته، فريد زينون، فإن “أسعار البنزين والمازوت وقطع الغيار والتأمين ورسوم الجمرك ورواتب العاملين في قطاع التوزيع، قد شهدت زيادة ملحوظة مما زاد الأعباء المالية”. ويؤكّد زينون في حديث لـ”المدن”، أن “الموزّعين يتكبّدون أكلافاً وخسائر، وجزء منها مرتبط بالسائقين ومساعديهم، ومنها أكلاف الاستشفاء وأكلاف صيانة شاحنات نقل قوارير الغاز، فضلاً عن أكلاف المدارس والجامعات وأكلاف معيشة الأُسَر”. وأوضح أن قيمة الزيادة المطلوبة على الجعالة “هي 40 سنتاً لكل قارورة”. وبهذه الزيادة “المبنية على دراسة للسوق وللأكلاف، سيتمكّن العاملون في القطاع من تحمّل المصاريف، سيّما وأن وتيرة العمل في هذا القطاع تنخفض في فصل الصيف مقارنة بفصل الشتاء حين يكون الطلب على الغاز مرتفعاً”.
ويلفت النظر إلى أن النقابة “ليست في وارد زيادة الأكلاف على الناس، لكن لكي يستمر العاملون في القطاع بتوصيل الغاز للناس، يجب زيادة الجعالة”. والزيادة برأى زينون يجب أن تكون “صادرة بشكل رسمي عن الوزارات المعنية، أي وزارتيّ الطاقة والأشغال العامة والنقل، كي تمنع التلاعب بالأسعار”. ويتخوّف زينون من أن يؤدّي عدم رفع الجعالة إلى “خلق سوق سوداء تنطلق من الباعة الذين قد يرفعون الأسعار. ولذلك على الوزارات المعنية اتخاذ القرار بشكل قانوني، ليتمّ بعدها ملاحقة أي محل لا يلتزم بالتسعيرة”. وفي سبيل اتخاذ القرار الرسمي، يقول زينون إن “النقابة تواصلت مع وزارة الطاقة التي أبدت عدم رفضها زيادة الجعالة، لكن على النقابة الحصول على موافقة وزارة الأشغال العامة والنقل لكي تصدر وزارة الطاقة التسعيرة الجديدة للغاز في جدول تركيب الأسعار”.
ابتزاز الدولة والناس
ينطلق دور وزارة الأشغال العامة والنقل في الموافقة على زيادة الجعالة، من أن عملية توزيع الغاز تنطوي على التنقُّل في المناطق لتوزيع الغاز. وهذه العملية فيها أكلاف محروقات وصيانة للشاحنات. لكن الوزارة لا تفصل الموافقة على زيادة الجعالة عن مسألة تحديد تسعيرة النقل في قطاع النقل بشكل عام.
وفي السياق، تؤكّد مصادر في وزارة الأشغال إلى أن “تعرفة النقل لم تُحسَم بعد، وبالتالي لا يمكن زيادة أي أكلاف تتعلّق بالنقل، لأي قطاع كان، قبل تحديد التعرفة التي تُبنى على أساس دراسة للأكلاف”. وترفض المصادر أن يضع كل قطاع الرؤيا التي يراها مناسبة له ويطرحها على الوزارة ويحذِّر من سوق سوداء أو أزمة في حال لم تتحقّق مطالبه. فمن غير اللائق أن يتم وضع الدولة أمام أمر واقع، فنحن في دولة ولسنا في دكان”.
وتشير المصادر إلى أن “تسعيرة النقل ثابتة منذ ثبات أسعار الدولار وحركة أسعار البنزين والمازوت، ومع ذلك، سيتمّ خلال نحو أسبوع، وضع تعرفة جديدة للنقل”. وبالتالي يمكن إعادة النظر بجعالة قارورة الغاز وفق تعرفة النقل الجديدة التي ستُبنى على دراسة لمتطلّبات وأكلاف قطاع النقل بشكل عام، وليس النقل في كل قطاع على حدا.
موقف المصادر في وزارة الأشغال، حول عدم الموافقة على زيادة الجعالة في الوقت الراهن، يتطابق مع موقف نقابة موزّعي الغاز، إذ يعتبر أمين السرّ والإعلام في النقابة، جان حاتم، أن نقابة الموزّعين “طرحت على وزارتيّ الطاقة والأشغال مسألة رفع الجعالة، لكن تم تجميد النقاش في هذا المطلب منذ نحو 7 أشهر بسبب الأوضاع التي يمرّ بها لبنان، وهي أوضاع لا تتناسب مع زيادة الأكلاف على الناس عبر زيادة أسعار الغاز“. وبرأيه، فإن زيادة الجعالة “هو مطلب محقّ لكل المعنيين في القطاع، لكن وضع البلد لا يحتمل الزيادة اليوم”.
ويستبعد حاتم في حديث لـ”المدن” أن يؤدّي عدم رفع الجعالة في وقت قريب إلى ولادة سوق سوداء. إذ أن “البلد في حالة فوضى ولا محاسبة ولا رقابة، ومَن يريد زيادة أسعار الغاز يمكنها زيادتها، لكن لن يتحوَّل الأمر إلى سوق سوداء عامة”.
في المقابل، يصوِّب حاتم النقاش في هذا المجال نحو نقاط أهم بنظره، ففي هذا القطاع “هناك شركات تضارب على موزّعي الغاز، وهناك توزيع عشوائي للقوارير في سيارات وشاحنات وتوك توك يقودها غير اللبنانيين وبلا مواصفات وحماية، وهذا الأمر يستدعي تنظيم وضبط القطاع وتطبيق القوانين، لأن مشكلة القطاع لا تقف عند الجعالة”.
ضبط الفوضى الحاصلة في القطاع، تستدعي بحسب حاتم “التشدّد في منع الدخلاء على القطاع من العمل. والتشدّد في تطبيق المعايير القانونية سواء لجهة مَن يحق لهم دخول محطات الغاز ومَن لا يحق لهم الدخول. فكل المركبات المقفلة على سبيل المثال، ومنها سيارات المواطنين، لا يحق لها الدخول. وكذلك، لا يجب وضع القوارير بشكل أفقي كما يحصل في سيارات المواطنين عندما يذهبون لتعبة القوارير في المحطات. وأيضاً، لا يجب تعبئة القوارير الضغيرة بأكثر من 10 كلغ، في حين يتم تعبئتها على أرض الواقع بـ12.5 كلغ، وهذا يزيد مخاطر انفجار القارورة، سيّما وأنه لم يتم الانتهاء من استبدال كل القوارير التالفة وغير المطابقة للمواصفات، في السوق”.
الجعالة الحالية هي دولار واحد على كل قارورة، تُحتَسَب للموزّعين القانونيين، وهؤلاء هُم مَن يوظّفون العمّال لتوزيع الغاز، ومن الطبيعي أن يستفيد العمّال من أي زيادة. لكن أرضية إقرار الزيادة ما تزال غير صلبة، ولذلك، سيبقى سعر القارورة على ما هو عليه وفق ما تورده وزارة الطاقة في جدول تركيب الأسعار. على أن يُعلَن عن أي مستجدات، بشكل رسميّ بعد التوافق بين الوزارات والنقابات المعنية.